إلى حكومة المأمورية الثانية / التعليم الحديث يلفظ أنفاسه الأخيرة ...السالك ولد أحمد ولد أبّهاه

اثنين, 2014-08-25 12:08

ولدت الدولة الموريتانية من فراغ لتصارع داخليا وخارجيا في سبيل إثبات الذات وبناء الدولة الوطنية بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا أننا وبعد 54 سنة علي ميلاد الدولة لا نزال نتخبط بحثا عن الوطنية المفقودة في المجتمع فما بالك بالدولة التي هي انعكاس سيسيولوجي له، وذلك بالرغم من تعاقب الأنظمة حتى لا أقول الأفراد على سدة الحكم والتي تعود الخلف فيها مسح الطاولة الديكارتي لكل ما قام به السلف ليبدأ هو الآخر مشواره في بناء دولة على أسس تقليدية تبعدنا كل البعد عن الدولة الوطنية التي يحلم بها كل مواطن موريتاني.

 

قد أختلف مع النظام الحاكم حول جدوائية مشاريع هي في أغلبها غطاء لفساد مالي وإداري ، إلا أنني ومن خلال مأمورية الرئيس محمد ولد عبد العزيز الأولى لامست إرادة لدى الرجل نحو بناء الدولة العصرية وتحقيق التنمية المستدامة وإن كانت الطريق نحو ذلك مليئة بالشوائب مما يدفعني إلى تقديم مقترح يسهم ولو بجزء بسيط في تحقيق غاية الجميع ـ ألا وهي موريتانيا قوية مزدهرة ـ وخاصة في ظل غياب الأحزاب السياسية والنخب المثقفة سواء في الموالاة أو في المعارضة عن لعب دورها الحقيقي المتمثل في كشف الأضواء عن نشاط النظام والمساهمة بالمقترحات لحلول المشاكل البنيوية في الدولة.

 

إرادة رئيس الجمهورية وغياب الطرح الموضوعي لمشاكل الدولة هي أمور من بين أخرى دفعتني إلى صياغة هذا المقترح حول التعليم باعتباره المغذي لروح الوطنية في نفوس المواطنين والرافد الأساسي للتنمية المستدامة القائمة على الثروة البشرية ، تشجعني في ذلك تجربتي القصيرة كمدرس في إحدى مؤسسات التعليم الحرة إلى جانب جو الرأي والرأي الآخر الذي صنعه رئيس الجمهورية من خلال لقاءات لعل أهمها لقاء الشباب "أنتم الأمل" وإن كان في نظري مجرد خطوة سياسية إذ بالإمكان الإطلاع على آراء الشباب وإسهاماتهم في بناء الدولة من خلال موقع إلكتروني يخصص لهذا الغرض فيكون أقل تكلفة وأكبر قيمة من لقاء تتداخل فيه التوازنات السياسية.

 

مضغة في الدولة إذا صلحت صلحت الدولة وإذا فسدت فسدت الدولة ألا وهي التعليم الذي لا يختلف إثنان على أهميته بالنسبة للفرد أو الجماعة ، و التجربة البشرية في تاريخنا الإسلامي وفي دول كثيرة حول العالم خير دليل على ذلك ، وهو ما نسته أنظمتنا المتعاقبة ولا سيما نظامنا الحالي الذي ركز على الطرق والمنشئات ـ وما تعيين ولد حدمين على رأس الحكومة الجديدة إلا استمرار في ذات النهج ـ وتقديم السمك للمواطنين دون تعليمهم كيف يصطادون السمك ، فبدون وعي بالقيمة المادية والمعنوية لهذه الانجازات لا يمكن الجزم بديمومتها ولا حتى صيانتها والتجربة الليبية في عهد القذافي شاهدة على ذلك.

 

لطالما كانت يافطة الإصلاح التربوي سنة ملازمة للتغيير الحكومي في بلادنا فعرفنا منذ 1959م وحتى 1999م حدود العشر إصلاحات تربوية " ما فيها بركة واحد " نقلتنا من دولة بلا هوية إلى دولتين في دولة واحدة إلى دولة مزدوجة الهوية ، ومع ذلك لازلنا نبحث عن هويتنا من خلال أيام تشاورية حول التعليم بقيت نتائجها حبرا على ورق ، وهو ما يوحي بأن هذه الخطوات كانت تتم بدافع سياسي وليست مؤسسة تأسيسا علميا موضوعيا ، مما يحيلني إلى الممارسة السياسية في بلادنا والتي لا خطوط حمراء فيها ولا مبادئ فحيث ما تكون المصلحة الشخصية ولو على حساب الوطن ، وعليه ينبغي ابعاد التعليم ـ الذي هو عماد الدولة ـ والصحة ـ لما تعنيه من أرواح بشرية ـ عن اللعبة السياسية ومزايداتها الدنيئة.

 

من الغريب أنه بعد فشل كل إصلاح تربوي أو أي مخطط تنموي كان تخرج لنا فئة تطبل وتزمر وتكرر ذات الشعار وهو العمر القصير للدولة وفساد الحكومات السابقة وإهمالها والأدهى والأمر أنها تحمل يافطة أخنى عليها الذي أخنى على لبد ألا وهي أن الدولة ولدت من فراغ ، وقد أكون أوردت هذه العبارة في بداية كتابتي هذه وأنا مدرك لذلك والهدف أن أبين الفراغ المقصود الذي هو في تصوري فراغ إداري وسياسي بعد قرون سيبة لم تعرف فيها هذه الربوع حكما مركزيا ولا علاقة له بتاتا بالموروث الثقافي والاجتماعي لساكنة الأرض والغني بالتجارب الممهدة لأن تكون بلادنا لو عدنا له من أحسن البلدان تعليما وصحة وخدمات ، وبالتالي فالدولة ولدت من فراغ إداري وسياسي وليس فراغا ثقافيا واجتماعيا.

 

بالملاحظة البسيطة ودون عناء ندرك أن كل الاصلاحات التربوية التي قيم بها تخدم بشكل أو بآخر المصالح الإستعمارية والثقافة الفرانكفونية كيف لا وهذه الاصلاحات هي صناعة مختبرات المركز الثقافي الفرنسي وما يعنيه ذلك من إبعادنا عن هويتنا العربية الإفريقية الإسلامية التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقوم لدولتنا قائمة بدون الرجوع إليها واعتمادها محور التعليم بكافة مستوياته.

 

لقد خرّجت المدرسة الموريتانية الحديثة آلاف الخريجين بمستويات تعليمية ومعرفية مختلفة مع أن الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع الموريتاني يوحي بغير ذلك ، فالتطور البطيئ لنواميس الحياة في بلادنا يؤكد عدم مردودية هذا الكم من الخريجين على الدولة والمجتمع ، ونجد تفسير ذلك في اعتماد الدولة منذ نشأتها وفي كافة مراحلها التربوية على الكم بدلا من الكيف في ما يتعلق بالناتج التربوي ، وله تفسيره الآخر ألا وهو غياب روح الوطنية لدى الخريجين بحكم غيابها عنهم في المقررات الدراسية ، وعليه فأي إصلاح تربوي لا يعتمد التربية الوطنية ضمن المقررات الدراسية يبقى فاشلا فالدكتور في الرياضيات أو في الطب لا يؤمن بوطنه سيبيعه بدراهم معدودة في الخليج أو في أوروبا والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف لنا بتخريج الأجيال الوطنية ؟

 

دعوني قبل الإجابة على السؤال أن أحدد مفهوم الوطنية الذي تعددت حوله التعاريف والتي أقول عنها ببساطة أنها تجسيد حب الوطن على أرض الواقع وحب الوطن قد يكون فطريا إلا أنه ينمو أو يموت بتأثير الظروف الاجتماعية والثقافية المحيطة بالفرد وليس أقلها شأنا المدرسة التي هي الوحدة الاجتماعية الثانية للفرد بعد الأسرة ومن خلالها يمكن صنع الجيل الوطني الحقيقي بإشباعه الثقافة الوطنية ضمن مقرراته التربوية ، ولصناعة المدرسة الوطنية القادرة على تخريج الأجيال المؤمنة بوطنها ينبغي أن تحقق في منظومتها التربوية وبنيتها التنظيمية الغايات التالية :

 

أولا : الحفاظ على الهوية الوطنية للشعب الموريتاني من خلال اعتماد اللغة العربية لغة تدريس ولغة إدارة لمكانتها الموضوعية والتاريخية والروحية لمختلف القوميات الوطنية إضافة إلى تدريس اللغات الوطنية (البولارية ـ السوننكية ـ الوولفية ) بأبجدياتها في التعليم القاعدي وكتخصص علمي باعتماد قسم خاص بها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية لما لذلك من تمكين التواصل الاجتماعي بين شرائح المجتمع ودعم للوحدة الوطنية ، وكذلك تدريس التراث الوطني.

 

ثانيا : تنمية الروح الوطنية والانتماء لدى التلاميذ عن طريق ترديد النشيد الوطني جماعيا في طوابير أثناء رفع العلم الوطني ، وهو ما يحيلني إلى الحديث عن نشيدنا الذي لا يلبي الحاجة الوطنية في اعتقادي لخلوه من ما يمجد الوطن ولذلك يجب التفكير في تعديله واقترح بهذا الخصوص الإبقاء على ثلاثة أبيات شعرية من النشيد وهي :

 

كن للإله ناصرا وأنكر المناكرا

 

وكن مع الحق الذي يرضاه منك دائرا

 

واسلك سبيل المصطفى ومت عليه سائرا

 

وإضافة ثلاثة أبيات أخرى على نفس الشكل العروضي تتمحور حول الوطن ومناقبه بلغة جزلة وبسيطة تمكن التلميذ من حفظه وفهمه ، على أن تتم دراسته مع الرموز الوطنية الأخرى ضمن مادة التربية المدنية أو لنسميها التربية الوطنية لما للعبارة من وقع في النفوس ، وأن تشمل هذه المادة مواضيع في الحياة المدنية المعاصرة تمكن التلميذ من الإسهام في بناء المدينة العصرية والحفاظ على المكتسبات التي تحققت في هذا المجال ، وكذلك مواضيع تهم الحياة اليومية للفرد كالإسعافات الأولية والصحة الغذائية وإطفاء الحرائق ، كما أن توحيد الزي المدرسي وتنطيم الرحلات المعرفية والمخيمات الصيفية له دوره الكبير في ترسيخ الوحدة الوطنية بين أبناء الوطن الواحد.

 

ثالثا : خلق الجيل الوطني المعطاء المؤمن بالخدمة التطوعية في سبيل مجتمعه ووطنه وهو ما لن يكون بدون حملات التنظيف المدرسية داخل المؤسسة وفي محيطها والبستنة من زراعة وسقي للمشاتل المدرسية.

 

رابعا : دعم النشاط الثقافي والرياضي للتلاميذ بفتح الباب أمام المواهب في المعرفة والرسم والشعر والرياضة بمختلف أنواعها وذلك بتنظيم المسابقات المدرسية الداخلية والبينية ، وتفعيل مادة الرياضة البدنية لأن عقلا سليما في جسم سليم هو ما نحتاجه لبناء وطننا الحبيب ، إلى جانب دعم الجهات الطلابية القائمة بهذا الدور كالأندية الثقافية والنقابات الطلابية.

 

خامسا : تحسين الأداء المدرسي بتنظيم الندوات التكوينية لصالح وكلاء التلاميذ ومتابعة مستويات التلاميذ من خلال إدراج موظف متخصص اجتماعيا ضمن مجلس إدارة المدرسة ، ثم إثراء المكتبات والمختبرات المدرسية وتطويرها ، إضافة إلى تفعيل الرقابة على مؤسسات التعليم الحرة وتكوين المدرسين الحاصلين على إذن تدريس من وزارة التعليم والعقدويين لمدة شهر على الأقل ، ولا أنسى كذلك اعتماد سياسة لتجميع القرى داخل البلاد تمكن من استفادة تربوية أكبر للتلاميذ في الداخل ، وأخيرا وليس آخرا إلغاء ضوارب المواد المعتمدة في التعليم القاعدي مما يدفع التلميذ إلى إهمال مواد لا علم ولا تطور بدونها كالتربية الإسلامية.

 

سادسا : من لا ماضي له لا حاضر له وللأسف يكاد يخلو مقرر مادة التاريخ من تاريخ وطني وهو ما ينبغي تجاوزه بتقليص المواضيع المتعلقة بأوروبا وآسيا وأمريكا ـ على أهميتها ـ والتركيز على تاريخنا الوطني ورموزه من علماء وأدباء وأبطال مقاومة ، والأمر ذاته في ما يتعلق بمقرر مادة الجغرافيا فعلينا معرفة أنفسنا قبل معرفة الآخر ، وتجدر الإشارة إلى أن العلمان منفصلان أكاديميا فالتاريخ علم إنساني والجغرافيا أقرب إلى العلوم البحته وقد يرتبطان في مواضيع كثيرة إلا أن ربطهما في المرحلة القاعدية من التعليم لا مسوغ له في اعتقادي.

 

أملي كبير في أن تنظر الحكومة الجديدة إلى هذه المقترحات بعين الاعتبار فتعكف على دراستها وجعلها أمرا واقعا حتى لو تم ذلك تدريجيا خاصة أنها تحقق غايات كثيرة وبأبسط التكاليف مذكرا بأن البنى التحتية على أهميتها لا ضامن لبقائها وصيانتها بدون البنى الفوقية ، والتمادي في إهمال التعليم يؤكد استبدادية النظام إذ لا حياة للمستبد في مجتمع متعلم كما هو معروف.