في تأبين المناضل يحي ولد عمر رحمه الله

-A A +A
اثنين, 2014-11-17 23:04

"يحي بن عمر" آخر، و"عروة" موريتاني ثان، ورائد من رواد النهضة الوطنية ترجل عن جواده اليوم، وانسحب بهدوء، دون أن ينبس بكلمة وداع، أحرى أن يجادل أو يعاتب أو يكون خصيما يرى لنفسه وذويه حقا في عالم شارك في صنعه، وكان له ولجيله من الوطنيين الشرفاء الفضل في صنعه من عدم؛ وها هو يخرج منه صفر اليدين.

في بداية سفر التكوين الموريتاني، انتمى ذلك الفتى اليافع الأسمر الفارع البهي، القادم من "عالم الصحراء والأفق الحزين" في "آفطوط" نحو مدارس العاصمة، إلى شلة من ثلاثة هم: يحي ـ مَمّد ـ بَنْ؛ فكانوا يدرسون معا، ويسكنون معا، ويخرجون معا، ويفرحون ويمرحون ويحزنون معا.

كان الوطن يخطو خطواته الأولى في درب الاستقلال والدولة... وكان الاستقلال السياسي الهش الموهوب لبلد فقير لم يترك فيه المستعمر شيئا يذكر، يتحول شيئا فشيئا إلى استعمار جديد، في ظل تدهور قيم التبادل، وجشع المستعمرين (خاصة شركة استخراج الحديد التي شكلت دولة أقوى من الدولة) وانهيار الاقتصاد الريفي تحت وطأة الإهمال والجفاف وإغراءات الحضر.

وكان العالم في النصف الثاني من القرن العشرين يولد ويتشكل من جديد، والشباب الصاعد الرائد يبحث بجنون عن الطريق.. وكان الفكر القومي والديني المعطى أول ما في المتناول.. ومدارسه شتى، والشباب سدى. وجدت الشلة نفسها فجأة تمور في خضم معترك يعج بأنصاف المثقفين من صغار الموظفين والتلاميذ يبحث عن غد أفضل..

وفي فبراير سنة 1966 صارت وقودا في فتنة لم تشعلها؛ بل دبرها مترفون سياسيون متآمرون، وتم فيها اعتقال الفتى ضمن عشرات الموظفين الصغار والنقابيين والتلاميذ ونفوا إلى الداخل: انبيكه، بوامديد، تجگجه، وأخيرا مفوضية الشرطة بلكصر (الصورة).

كان، رغم هدوئه والتزامه ومرحه وشجاعته أيضا، التلميذ الوحيد الذي بقي معتقلا مع "الكبار" وكان الوحيد من بين السجناء العرب الذي يعشق الاشتراكية ويواظب في ذلك العهد المبكر على قراءة كتب الفكر والفلسفة.

ولما استعاد حريته رغب عن ملة شلته دون أن يقطع صلته بها، واختار الطريق الأصعب والأخطر: طريق الثورة والديمقراطية والوحدة الوطنية.. واحترف النضال.

كان من بين الأشبال الذين حاصروا الرئيس المختار ولد داداه - رحمه الله- عندما زار ثانويتهم سنة 1964 وناشدوه ترسيم اللغة العربية وإعادة الاعتبار إليها.. وظلوا يثابرون على ذلك النهج ويدعمون ذلك الاتجاه ويدافعون عنه، رغم لبان موليير التي أُرضعوها في كنف مدارس الاستقلال الأولى.

وفي مقدمة الحشود التي زحفت على السفارة الأمريكية وحاصرتها وأجْلتها عن أرضنا بعد العدوان الصهيوني الأمريكي على العرب في يونيو حزيران 1967.

وممن قادوا الجموع التي نددت بمذبحة عمال ازويرات في مايو 1968 وعروا الاستعمار الجديد، ورفعوا راية التمرد والثورة، وبلوروا أهداف النضال الوطني في مطالب شعبية أساسية هي: مراجعة الاتفاقيات الاستعمارية مع فرنسا، وتأميم ميفرما، وإطلاق الحريات الديمقراطية، وترسيم اللغة العربية، وتوفير حياة أفضل للمواطنين.

وظل في طليعة ذلك النضال الذي عم البلاد من أقصاها إلى أقصاها في نهاية الستينيات وصدر السبعينيات وتمخض عن تحقيق تلك المطالب:

ـ في نواكشوط وروصو تَصَدَّر الحركة الطلابية والنقابية.

ـ وفي أگجوجت عاملا في شركة سوميما وقائدا عماليا. ـ وفي نواذيبو ثوريا محترفا يحدو ويقود الحركة الثورية في الشمال.  

وكان مع ذلك "فتى" لا ينسى "نصيبه من الدنيا" رغم جو العزلة والجدية الكالح الذي يفرضه بعض رفاقه الجامدين الذين يفصلون الثورة عن الثقافة والأدب والفن، ولا يعتبرونها عملا إنسانيا، حين يتذكر مضارب قومه "أولاد تيكي" في "آفطوط" حيث "نيطت تمائمه" وحبا وناغى، فيبكي في صمت وكبرياء (ولكم بكى في صمته التمثال) وهو ينصت خاشعا إلى الفنان الكبير الشيخ ولد آبه يردد قول ولد آدبه:

تفگاد الحله سهان ** تجلاج عن بعد أوطان

مان متفگد شي ثان ** وڸَّ تايب لك يالجليل

احجل شي ثان مان ** ناسيه اتفگدت ثقيل

يوم امگيل الناس اتحان ** حر الصيف إفوت افلمگيل

لگبيل افلكصر متگــــان ** هان ماه فصيف ارحيـــــل

إحان لخظار أوهـــــان ** فِظَّل امتلاحگ لگبيل

ابكيلك يالعين أران ** طيتك لذن افتبك وإسيل

دمع العين اليوم ابلا بيه ** اجميل اعلى سبت لكتيل

فرظ إسيل الگبيل اعليه ** فرظ إسيل ابلا بيه اجميل.

أو حين يعضه الجوع بأنيابه المدببة الموجعة في شتاء نواذيبو القارس فيضحك مستهزئا به، وينشد في هدوئه ومرحه الأسطوري - وهو الفلاح الذي يعتز ببيئته- قول "فتى" فلاح آخر من "آفطوط" هو الشيخ الجليل آبَّه ولد اخطور:

خليلي إن الجوع في زمن الشتا ** شديد على الفتيان بل عنده الحگ

فلما أتينا الحي قالت نســــــاؤهم: ** علينا بهذا اليوم قد عسر الدگ

فقام فتى في الحرث يكسر سنبلا ** ليشويه في الرگ إذ لُيِّنَ الــــــرگ

فلما شواه حكه بحـــــــــــــجارة ** على طبق بقدر ما يلمع البــــرگ

فجلوجه حتى صفا ودعــــا لنا ** وقال: على اسم الله، هذا اسمه منگ

وزاغ حزبه تحت ضغط حملات القمع التي طالت الكثير من أطره الذين ضاقت بهم زنزانات معتقل بيلا سيئ الذكر، فهرب إلى الأمام ودعا إلى خوض النضال المسلح دون أن يمتلك وسائل ذلك، أو يكون الصراع الاجتماعي قد طرحه في جدول أعماله؛ فنال ذلك التوجه الأرعن نصيبا وافرا من سخريته هو المعهودة.

ولكن سرعان ما تم تدارك الوضع بالتخلي عن ذلك الخط والدعوة إلى خط "الوحدة الوطنية" حول برنامج وطني إصلاحي يتناسب مع ميزان القوة القائم ويلبي متطلبات المرحلة. ورغم انتصار خط الوحدة الوطنية الذي جاء مهرجان الشباب في أغسطس 1974 تتويجا له، وتأميم ميفرما وسوميما وبياو، وصدور عفو عام عن جميع الوطنيين، وتسوية أوضاعهم المهنية، وإعلان ميثاق وطني تقدمي، وتبني سياسات اجتماعية في مختلف المجالات الحيوية؛ فقد ظل بعض رفاقه من أنصار الخط المناوئ يتململون ويحنّون إلى التغريد خارج سرب الوحدة الوطنية لعل وعسى، ثم ما  لبثوا  أن انشقوا عن الحزب في نهاية المطاف وحالفوا بوليزاريو.

كان الأمر مؤلما له وخطيرا في نظره، لكن ما بيده حيلة..

إنه الصراع الاجتماعي. واندلعت حرب الصحراء العبثية رغم ما بذله رفاقه من جهد في تجنبها، فجاءت على الأخضر واليابس، وحطمت ما سطره الشعب الموريتاني من معالم خير.

وجاء انقلاب العاشر يوليو: أقبل الليل فجر يوم حزين ** فنسينا المنى وذقنا الهوانا حين جاس المغول نهبا وسلبا ** وانتهاكا.. وعاث جنكيز خانا لجنة بعد لجنة بعد أخرى ** نخرتنا.. طبيعة وكيانا! وكان من منظريه وقادته زميله وصديقه في الشلة "بن".

التقى الرجلان بعد فرقة دهر؛ هذا يقود انقلابا ناجحا ويتربع على عرش أهم وزارات السلطة الجديدة ويطلب من مستشاريه في الوزارة وضع خطة تسيير لعشرين سنة، وذاك صفر اليدين إلا من الإيمان بكنه وطبيعة تلك المهزلة، وتوقع الكارثة التي ستؤدي إليها: قال له صاحبه:

بقلم : الأستاذ محمدٌ ولد إشدو