تقريظ لرواية "لغز إنجيل برنابا"

-A A +A
أحد, 2021-03-28 15:53
حسني الفقيه

إن قراءة عجلى لرواية لغز إنجيل برنابا، للكاتب المتمكن محمد السالك ولد إبراهيم، لا تكفي أمثالي من قليلي البضاعة العلمية لإدراك جميع أبعادها وفتوحاتها، بلْهَ أن كنت منصرفا منذ فترة إلى أعمال إدارية ضاغطة وتيرتُها، قاتلة للذوق رتابتُها. ومع ذلك، فلم أجد مندوحة عن التصدي لتقريظ هذه الرواية شهادة مني وتزكية لهذا العمل الذي طلع علينا به دبلوماسي محنك، وإعلامي متميز، وباحث اجتماعي متمرس، سُهمةً منه في إثراء فضائنا الثقافي الذي احتبس عنه ماء الإبداع في مجال الرواية حتى كاد القوم يحكمون عليه بالجدب والعقم، لولا طلعات متقطعة من بعض الكتاب يعدون على أصابع اليد الخمسة لكل منهم نهجه المتميز في الإبداع واختيار الموضوع وبنائه. ...

وإن طلعة رواية إنجيل برنانابا، لذاتُ تفردٍ في هذا المضمار؛ وما أنا هنا سمسار يروج بالباطل سلعة كاسدة، وإنما أردت التنبيه الرصين المجمل إلى بعض محاسن هذه الرواية. والإشارة في هذا المقام تكفي، لأن التطويل لا محل له هنا فهو أخلق بالبضاعة الرديئة. إن ما يسترعي الانتباه منذ العتبة الأولى، هو عنوان " لغز إنجيل برنابا".

وهي، لعمري مفاجأة قد يستغربها القارئ الموريتاني الذي لا تشغل الأناجيل أي حيز من اهتماماته الثقافية، ولا أثر لها في حياته اليومية، فلا الحديث هنا عن "الرياح" التي هي بمثابة "المعيش" اليومي لأغلب مدننا، ولا عن "القبر المجهول" المبثوث منه الكثير في مناكب صحرائنا الواسعة، ولا عن "أسمائنا المتغيرة" ولا عن " سحابة نسيت أن تمطر" ولا عن "طبل الدموع" المنسكبة على ماض زاهر مفقود...

وكلها روايات وطنية تعلن عناوينها بطاقة هويتها الصحراوية... لكن الغيوم تبدأ تنقشع شيئا فشيئا عن هذا اللغز حين يبدأ السطر الأول من الرواية، ب: ((وقف البروفسور"حامدون"...)، وهو مدير المخطوطات والكتب النادرة منذ أكثر من 20 سنة" بالمكتبة الوطنية بقصر "هوفبورغ" في فيينا، وواضع خطة عملية للبحث عن المخطوط الأصلي لإنجيل برنابا من أجل عرضها في احتفالية كبرى ستنظمها هذه المكتبة بمناسبة مرور 650 سنة على ذكرى تأسيسها...

وتتداعى إلى الذهن صورة ابن خلدون موريتانيا المؤرخ الكبير وخريت المكتبات بلا منازع...

إلا أن المكان ليس "أبكاك" ولا "آمنيكير"؛ على أن الاسم في الحقيقة مركب ( حامدون مودين الله) ليحيل إلى التنوع الثري لمجتمعنا...

ويحط بنا الكاتب بسرعة بعيدا عن فيينا، فينقلنا إلى أطار و"آبير، ووادان وشنقيط، وإذا "شقران" المرشد السياحي يستقبل فوجا من السياح الأجانب، من بينهم "ماريانا" ...

ومن باب التشويق والإمتاع يسترسل الراوي طويلا في حكاية أساطير شعبية عن هضبة آدرار، متوقفا عند ما تزخر به هذه المنطقة من مكتبات ونخيل وكثبان رملية ونقوش على الصخور ومعالم استقطبت المستكشفين وما تزال تستقطب السياح، مثل "قلب الريشات" العجيب وجبل "الزرقاء"... ويتقدم الكاتب في إحكام حبكة روايته: مرشدون سياحيون يعرضون للبيع منقولات أثرية ملتقطة.. ماريانا مهتمة..." شقران" يعدها بتدبير المطلوب.., ويجلب لها المخطوطة التي تريد... تدفع له مقابلها ألف يورو بعد أن بخستها بحجة أنها ليست بلغة معروفة.....

تسافر ماريانا إلى باريس بالمخطوطة ....تتم الاستعانة بخبير فرنسي لتأكيد قيمة المخطوطة...وهو الخبير الذي سيسوقه القدر إلى البروفسور حامدون لصداقة سابقة بينهما...

ويجزم هذا الأخير بأن المخطوطة نسخة من إنجيل برنابا، بل ربما تكون هي الأصل...هنا اللغز وعقدة الرواية: كيف وصلت النسخة الأصلية من إنجيل برنابا من الصحراء إلى خزانة الثري الغامض "لوتشايانو"... 

إن هذا اللغز يؤرق بطل الرواية حامدون الذي تتلاحق في ذهنه أصلا مشاعر إحباط شديد، سيعبر عنها لاحقا بقوله: "عليكم أن تتصوروا فقط بأنه كانت لدى الإنسانية ولأكثر من ألف وخمس مائة سنة هناك في تلك الصحراء الوادعة...

وثيقة نادرة، ربما لو عثرنا عليها ...لأعطتنا قوة دفع خارقة لتدبير كل الملفات الكبرى العالقة حاليا، مثل حوار الحضارات وحوار الأديان وحوار الثقافات والتعايش السلمي وممارسة الغلو والتطرف العنيف..."..

أما همه الأكبر فمصدره تألمه الشديد لحال مواطنيه...خاصة حين يهملون ثروات بلدهم الثقافية ومعالمه الحضارية وشواهده التاريخية التي "بدونها لن يكون إلا رمالا متحركة تذروها عاديات الزمن ويطويها النسيان طي السجل للكتاب"...

وهو لعمري هم شريف ونبيل... من هذا المنطلق ينبع حرصه على استرجاع مخطوطة إنجيل برنابا التي ظلت محفوظة في مغارة صخرية في أعالي جبل "انطرزي" المطل على "القلعة القديمة" في "آزوكي" ...

والتي اختفت قبل أكثر من 1500 سنة في منطقة ما بشمال إفريقيا في عهد سيطرة الرومان على مملكة موريطانيا القديمة... وتبني امبراطوريتهم احتكار المسيحية كدين رسمي للدولة واعتبار ما سواها هرطقة وتحريفا. ...

ويتعزز إلحاح وأهمية الحصول على المخطوطة، بدخول المفتش "جيلبير" على الخط محققا في قضية المخطوطة الخطيرة باعتبارها "مرجعية دينية كبرى، قد تهز التعاليم الموجودة فيها استقرار العالم المسيحي خاصة في الغرب... " ...

و"قد تستخدم في أتون الصراع الحضاري لتغيير موازين القوى بين الشرق والغرب".... يحتدم سباق محموم بين كل شبكات تهريب الآثار العالمية، والجمعيات السرية الدينية والاستخبارات الدولية والانتربول... وذلك بالتوازي مع حملة شرسة يقودها البروفسور حامدون، مبشرا بالأمن الثقافي الذي يحفظ خصوصية الجميع، ومحاربا تهريب الآثار والاتجار غير المشروع بالمنقولات الثقافية؛ وقد قادته هذه الحملة لجامعة كولومبيا وإلى إدارة معهد التراث الإفريقي في نيويورك وإدارة مركز "آفريكا سنتر"...

فقناعته راسخة بأن "تدمير الكنوز الأثرية والتلاعب بالممتلكات الثقافية في أماكن عديدة من العالم هو شهادة جديدة على حرب شاملة تشن على حضارة الإنسان وعلى مستقبل التعايش بين بني البشر الذي لا يمكن أن يستمر بدون التمثلات الثقافية التي تجسدها كافة أشكال التعبير الثقافي الإنساني. 

حرب لإفراغ مهد الحضارات من تعدديته الثقافية في ما يشبه حركة تطهير ثقافي للحضارة وللذاكرة والهوية الإنسانية، وهذا أمر بالغ الخطورة"... ...

وبفضل جهود حامدون الجبارة وحملاته الواسعة والتحفيزات المغرية والضمانات التي قدمها لماريا نا وصديقتها فاسلافيتا، تم طي فصول الرواية على نهاية سعيدة يجسدها حفل توقيع محضر تسليم المخطوطة الذي حضره: ممثل الانتربول، ممثلة اليونسكو، حامدون عن المجلس العالمي للآثار، بالإضافة إلى مدير الشؤون القانونية بوزارة الشؤون الخارجية الإيطالية، ومحامي بلد المنشأ من موريتانيا (صاحب الملكية القانونية)؛ وتوقيع محضر ثان يقضي بإعادة المخطوطة إلى بلد المنشأ بعد قضاء ثلاث سنوات في المكتبة الوطنية بفيينا؛ ...

وكانت فرحة الجميع غامرة، وخاصة البروفسور حامدون الذي خاطب ماريانا قائلا: " فقط أردت أن أقدم لك بشكل خاص وشخصي... كل الشكر...

فقد ساعدتني في تحقيق حلم كان يراودني من زمن طويل...وقد أصبح بالنسبة لي دينا منذ الأشهر القليلة الماضية، عندما قطعت على نفسي عهدا بأن أبذل كل جهد ممكن في سبيل الوصول إلى هذه المخطوطة.. تأثرت ماريانا كثيرا، فردت عليه بأنها علمت بعد اتصاله الأول بها أنه ربما يكون من أصل موريتاني....وذكرت له حبها وصداقتها لهذا البلد الذي زارته مرات، لكنها ستعود إليه لاحقا لا كعميل لمافيا" لوتشيانو" ...

بل من أجل التطوع للعمل الخيري في المناطق المعزولة.... إن رواية لغز إنجيل برنابا جيدة السبك محكمة الحبك، طافحة بالمعاني الواقعية والرمزية والمعلومات السوسيو تاريخية عن المجتمع الموريتاني خاصة، وعن الفضاءات الأخرى التي تتقاسم معه مسرح الأحداث...وهي زاخرة بمفردات قاموسنا المحلي وبمعالمه ومعطياته المختلفة...

وهي وإن كانت كغيرها من الروايات الناجحة، تتجاوز في بعض لحظاتها، بحكم ما يربطها بالأسطورة من آصرة، المستوى السردي المعتاد، لتهتك الكثير من الحجب وتتخطي حدود الموجود، فإن آصرتها تبقى قوية مع الواقع، توظف في سبيله ببراعة وإبداع كل الأبعاد المتاحة، لتذكر بالقيم والمثل الأخلاقية والثقافية والإنسانية التي يؤمن بها حتى النخاع الأستاذ محمد السالك ولد محمد إبراهيم، وبالتدافع الأزلي الأبدي بين الأمم والشعوب حولها ...

بين الحق والباطل. وصفوة القول أن هذه الرواية جديرة بكل تكريم وتثمين، لأنها من الأدب الإنساني الملتزم الرفيع الذي به ينتشر الوعي السليم وتترسخ القيم الفاضلة.

حسني الفقيه