الإمارات..  تعاقب القادة وبقاء النموذج

-A A +A
اثنين, 2022-05-16 18:07

من المعجزات اللافتة أن تستقر دولة ما في محيط مزعزع، و أن تنجح في بناء علاقات مستقرة وفعالة مع أحكام وحكومات مختلفة المشارب والتوجهات والثقافات. 

ليس من السهل أن تخرج دولة ما من عصر التدافع والاستقطاب الأيديولوجي دون لوثة داخلية ولا انجراف عام. 

صحيح أن كل هذا يكاد يكون مستحيلا وفق معطيات التاريخ، لكن ذلك المستحيل شكل فلسفة سياسية لحكام الإمارات وجعل منها نموذجا ليس فقط لسياسة الصمود أمام تلك الأمواج المتلاطمة وإنما لصناعة الريادة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في ذات الظروف وفي خضم وأوج  الصراع الاستقطابي الذي مارت به الدول العربية ومنطقة الشرق عموما  .

الإمارات - وفق هذا النهج - ليست حاكما يرحل وآخر يأتي وإنما رؤية يتوارثها الحكام. 

الوحدة و الانفتاح و الأمن و الطموح  و المعرفة تلك هي أركان فلسفة الحكم في الإمارات ، تلك الفلسفة التي بنبغي أن يستفاد منها كنموذج عربي وعالمي يجمع بين إدارة الأزمات واستثمارها والخروج منها بنجاحات عجزت أنظمة مستقرة كثيرة عن تحقيقها فيما يتعلق بتلك الأركان الخمسة .

الوحدة :حققت الإمارات نموذجا فريدا ومنضبطا فيما يتعلق بالإتحاد ، تجسد بدقة في اختيار اسم البلاد " الإمارات " وهي تعبير يعترف  بالبنية المستقلة لكل إمارة  ، " العربية " من حيث الناظم الثقافي واللغوي والتاريخي ، " المتحدة " وهي عبارة تخلد اتفاق الأطراف على الانسجام ضمن كيان واحد تحتفظ فيه كل اسرة حاكمة بحكم وإدارة إماراتها دون إخلال بتنوع وتباين التوجهات والإقتصادات والموارد .وحدة قائمة على توحيد الجهد العام ضمن كيان مؤسسي هو الإتحاد ، وتنويع للتجارب التنموية وإدارة الموارد ضمن السياسات المحلية لكل إمارة على حدى .

تمت صياغة رؤية واتفاق الاتحاد في ظروف كانت التجربة السياسية العربية الحديثة تتلمس طريقها في ظلمات التقليد الحرفي وبين يدي آلة الحرب والصراع الاستقطابي بين عالمين لا ينتمي العرب لأحدهما .

الانفتاح :فقد كان انفتاح الامارات على العالم اعترافا بالحاجة للمعارف والتجارب الإنسانية في محيط متخلف علميا واقتصاديا ، لذلك كان تصورها ذكيا لهذا الانفتاح .ففي حين كنا نسمع عن حاجتنا لتجارب ومعارف الأمم ، كنا نؤدلج بكراهية تلك الأمم وتسفيه ثقافاتها وأديانها ، ويوما بعد يوم كانت عزلتنا تزداد عن مواكبة التطور والشراكة الواعية مع الأمم والشعوب الناهضة .في ذات الحقبة حافظت الإمارات على فلسفة المحبة والانفتاح وخلقت بذلك بيئة مثالية للشراكة والتفاعل دون أن تخسر هويتها أو تلتاث منظومتها الثقافية ، حدث ذلك دون أن يخلع العربي الأصيل عقاله لصالح القبعة التي استقرت على رؤوس الثوار والمفكرين والساسة العرب .في ذات الحقبة كانت نخبة المجتمع العربي غارقة في التقليد ومبرمجة على النموذج الغربي من حيث الشكل والمظهر دون العمق والفلسفة .لم تظهر في الامارات نخبة سياسية بعيون زرق ولا ياقات أو قبعات أوروبية ولا بسيجار كوبي .وماتم هو عكس المفهوم السائد للانفتاح في المنطقة العربية ، فقد جسدت الإمارات رؤيتها في حدود الانفتاح على المعرفة والاستثمار بينما ظلت الهوية العربية والإسلامية في كامل ألقها واستعدادها لاستيعاب العصور .

 الأمن :خاضت الجيوش العربية حروب الأقطاب وطحنت اقتصادات الشعوب في صراعات الكبار والحلفاء واستجابت لكل استفزاز حدث في المنطقة وقاتلت بالصناعات الروسية والأمريكية والأوربية والصينية واليابانية ، لكن الإمارات على الرغم من قلة تعدادها البشري وحجم ثرواتها ، استطاعت أن تحمي نفسها من أطماع المماحكات والصراعات النارية على الثروة ، فاستقطبت عتادها البشري من مختلف البلدان الإسلامية لتعزيز قدراتها الأمنية الداخلية بينما تولى الإماراتيون تشكيل جيشهم وتسليحه بأحدث التقنيات وتعزيز قدراته بالدبلوماسية الجامعة بين القوة والسلم .فخلقت بذلك نموذجها دون خسائر ولا حسابات .

الطموح :حين بدأ العمل في ميناء جبل علي كان الخبراء غير مرتاحين للجدوى الاقتصادية لهذا المرفق الهائل حجما وتمويلا .لكن قادة الامارات كانوا قد اعتمدوا استراتيجيتهم الطموحة لخلق معجزتهم الخاصة .اليوم تسيطر موانئ دبي على نصيب هائل من السوق العالمية ويتربع ميناء جبل علي على صدارة الشرق الأوسط وتستحوذ روبال على ريادة صناعة الألمنيوم في المنطقة ، وتعج المنطقة الحرة بالصناعات والتبادل التجاري كأنشط الأسواق الحرة في المنطقة ومن الأنشط والأثرى والأكثر تطورا في العالم، وهذه مجرد نماذج. 

يتساءل الأماراتيون اليوم عن الترتيب العالمي لأي مشروع ينوون دخوله لأنهم يتحدثون عن طموحهم أكثر من حديثهم عن المشاريع نفسها .المعرفة :عندما نتحدث يكون الخيال مفتوحا على مصراعيه ويكون المنطق مسعفا بالتكييفات وفق توجهاتنا ومنطلقاتنا الفكرية ، لكننا حين ننظر لنتاج تفاعلنا اللفظي نرتكس لليأس من فرط ما آلت إليه طاقتنا العقلية من إحباطات .

نحن نؤمن بالفكرة لكننا حين نختلف مع منفذها نتنكر بكل طاقتنا ونستخدم كل أقنعتنا ولبوسنا لتجاهل المنجز وتبخيسه .

هل من الممكن أن نتحدث عن وكالة فضاء عربية مثلا ؟ونحن من شابت عوارضنا في الحديث عن التخلف التقني والتكنولوجي ؟بالطبع يمكننا أن نتحدث عن سيارة الإخوان في السودان وهي التي لم يرها ذو بصر ولا ذو بصيرة ، لكننا غير مستعدين أن نحفل بأقمار صناعية عربية ولا بوكالات فضاء عربية حين يكون موقفنا السياسي في حالة انحسار وجمود في قالب ما .

تلك إطلالة بسيطة على قوة الإرادة والاستثمار والطموح والتخطيط وطول النفس والصبر ، وفي ظروف كهذه يكون الشاهد أقوى من حربائية الشهود .

الإمارات نموذج عالمي رائد في مجال والتحول التكنولوجي .إنها تمتلك وتدير شركات الحلول الرقمية الرائدة وترفل في شراكات واثقة لتطوير البنى الرقمية في الكثير من دول العالم ( مثال : شركة حلول الامارتية التي استطاعت أن تدخل الرقمنة لدول كثيرة حول العالم منها بلادنا والتي يترأس فرعها الإقليمي في إفريقيا شاب موريتاني ) .

والحديث عن مشروع حكومة دبي والتطبيقات الأمنية والخدمية الأرقى في العالم هو حديث يتم تجاهله لأسباب آيديولوجية بالأساس .لكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي ان الإمارات ظلت سائرة نحو التقدم والنجاحات المبهرة وساحرة بركب عربي أصيل أبهر العالم ولا يزال يواصل مفاجأة الركود العربي المنتفخ بالغرور والتخلف .

لا شيء سيتغير في الإمارات إلا ما كان يتغير باستمرار .

أداؤها المبهر  و ريادتها للعلمية والعالمية .

رحم الله جيل التأسيس وبارك في عقبهم

محمد افو