ربانيون منافحون .. لا متطرفون / الأستاذ : محمد فال ولد محمد حرمة

جمعة, 2015-01-30 13:40

بسم الله الرحمن الرحيم   صلى الله وسلم على سيدنا محمد نبيه المقتفى وحبيبه المصطفى وعلى آله وصحبه أجمعين ، قبل مباشرة الحديث عن الأفكار الكبيرة والمثيرة الواردة في بعض المقالات لكتاب متميزين، والتعليق عليها، والتي ظهرت بعد ما وقع من انتقام على بعض المستهزئين في الفترة الأخيرة، من الوارد أن ننبه إلى أنه من أهم العوامل التي دفعتني إلى التعليق على هذه الآراء هو ما أعرفه في كتابها من صدق في التفكير وإخلاص للدعوة وانتصار للحق، فغني عن القول أنهم من القلائل الذين أبدوا استعدادهم العملي لبذل النفس في سبيل الحق وفي قضايا إسلامية لا غبار عليها ولا خلاف حولها .. وبهذه المكانة يكون كلامهم في أي شأن من شؤون المسلمين محلا للاعتبار ومجالا للأخذ والرد.

 

سأتناول هذا الموضوع في بحث بمنهجية مزدوجة تجمع بين استعراض آراء الكتاب المحترمين ومناقشتها، وسيتم ذلك بعون الله من خلال توطئة أولى يليها الدخول في الموضوع ثم نقاش الأفكار في مستواها العام ثم استعراضها فكرة فكرة وتقديم الردود عليها وعلى ما تقرر في أذهان كتابها مما نختلف معهم في تقريره .. ولكنه اختلاف لا يفسد للود قضية بطبيعة الحال.

 

.... ويبقى الود ما بقي العتاب.

 

توطئة أولى:

 

قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه العزيز {ألم أحسب الناس أن يتركو ا أن يقولو آمنا وهم لا يفتنون}قال المفسرون " أي أظن الذين جزعوا من أذى المشركين أن يُقنع منهم أن يقولوا إنا مؤمنون ولا يمتحنون في إيمانهم وأنفسهم وأموالهم بمايتبين به حقيقة إيمانهم "

 

 من ما ابتليت به الأمة الإسلامية في هذه العقود تلك الصراعات الداخلية التي يذكي نارها أعداؤها الأصليون ؛ يضربون بعضها ببعض في الظلام ويظهرون بمظهر المصلحين في وضح النهار؛ فمثلهم معها كمثل القائل :

 

وأهل خباء صالح ذات بينهم       قد احتربوا في عاجل أنا آجله

 

فأقبلت في الساعين أسأل عنهم    سؤالك بالشيء الذي أنت جاهله

 

 

 

عرض الأفكار ومناقشتها:

 

لا شك أن هذا الوضع القائم يجعل من الدعوة الصحيحة إلى المحجة البيضاء مهمة خطيرة ومعقدة .

 

إلا أن الشيء الوحيد الذي لا يجد فيه الأعداء الأصليون في صرح الأمة مغارات ولا مدخلا هو حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب محبته وتعظيمه وكونهما جوهر الإيمان الذي لا وجود له إلا به , والأعداء يدركون هذه الحقيقة فلذا كان لهم ولوع ناشئ عن يأس بالمس من ذاك الجناب الكريم.

 

أكل امرئ ألفى أباه مُقَصِّرا     مُعادٍ لأهل المكرمات الأوائل ؟!

 

ومن هنا كان مفترق الطرق في تقويم التعامل مع عملية القتل التي قام بها مواطنون فرنسيون مسلمون ضد مواطنين فرنسيين مستهزئين بجناب الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وليست عمليات القتل التي تقوم بها بعض الجماعات وربما الأفراد ضد الكفار من غير المستهزئين ولا المحاربين هي محل اختلافنا وتفرق آرائنا في هذا المقام ولكل مقام مقال .. فالنقاش هنا يدور حول تقويم قتل المستهزئين بالجناب النبوي الشريف فقط ولا علاقة له بغير ذلك .. وهذا يجب تأكيده و توضيحه و تبيينه .. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينظر إلى قتل الكافر المستهزئ وقتل غيره بعين المساواة.

 

ولا بد من ظهور الإجماع الصامد من الأمة كلما ظهرت تلك الهراءات والافتراءات البائسة اليائسة ولا مجال هنا لفقه الموازنات ولا للنظر في المآلات لأنه بالمساس بصميم الدين وجوهره فلا فقه للأمة ولا مآل لسياساتها.

 

"إذا وصف الطائيَّ بالبخل مادرٌ     وعَيَّر قِسًّا بالفَهاهة باقلُ

 

وقال السُّها للشمس أنت خَفِيةٌ       وقال الدجى يا صبح لونك حائل

 

وطاولت الأرضُ السماءَ سفاهةً         وفاخرت الشُّهبَ الحصى والجنادل

 

فيا موت زر إن الحياة ذميمة        ويا نفس جِدِّي إن دهرك هازل"

 

وهنا أود التعرض لبعض المفاهيم التي ينبغي تصحيحها في هذا المقام.

 

في سياق الحديث عن العملية التي هلك فيها بعض المستهزئين على أيدي مواطنيهم في فرنسا والتي وصفها بعض الكتاب بأنها عمل "إجرامي" ونرجو أن لا يلزم من هذا الوصف تصويب لعمل الرسامين الذين ذاقوا وبال أمرهم , بل نعيذ كتابنا بالله من ذلك ؛ والمشهور – ولله الحمد- أن لازم القول لا يعد قولا , ولو فرضنا أن منفذي هذه العملية قَتلوا مسلمين عدوانا فقد قتلوا , وقتلهم جابر على أحد قولين فليس من الشأن التشهير بهم بعد موتهم.

 

 أورد بعض الباحثين عقب هذه الحادثة شُبها أردت  مراجعتها مقارعة للنبْع بالنبع.

 

أولا قوله : يتضح من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المتطاولين الذين لم يلجوا أوار الحرب العملية ضده أنهم من أمة الرسالة التي تستهدفها الدعوة...

 

وقائع العهد النبوي لا تساعد على ذلك فمن تتبع تلك الحوادث التي حصلت في ذلك العهد  أدرك أن مجرد التطاول على المقام النبوي يضع صاحبه خارج نطاق الدعوة السلمية , ولا خيار حينئذ إلا القتل , وإنما اختلفت وسائل القتل باختلاف مراحل الحكم الإسلامي  ؛ ففي بداية الدعوة في مكة كانت وسيلة التخلص من المتطاول الدعاء عليه ؛ كواقعة ابن أبي معيط ففي حديثها الذي رواه مسلم (كتاب الجهاد والسير 3349) (...فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا وإذا سأل سأل ثلاثا ثم قال اللهم عليك بقريش ثلاث مرات فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته ثم قال اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط , قال الرواي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : فوالذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر.

 

وفي واقعة الطائف كذلك لم يمتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إنزال العقوبة بهم واستئصالهم بإطباق الأخشبين حرصا على أولئك السفهاء فهم لا خير يرجى منهم , بل رجاء أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده ويوحده , ولو أطبق عليهم الأخشبان لبادوا إلى الأبد فلم يربط استبقاءهم بأنهم لا يزالون "مستهدفين بالدعوة" وهذا المعنى جلي المأخذ من قوله صلى الله عليه وسلم :

 

بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا (صحيح البخاري , كتاب بدء الخلق 2992)

 

ويدل لذلك أن نوحا على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما مكث في قومه مدة تعاقبت عليه فيها الأجيال ويئس من إيمان من يخرج من أصلابهم دعا عليهم دعوة استئصال، مع أن قصد من يخرج من أصلاب الكفار بالدعوة قد يكون واردا في أول عهدها أكثر من وروده في أيامنا هذه، وسنزيد هذا الاستنتاج إيضاحا وتأصيلا في مواضع لاحقة من هذا المقال.

 

أما في المدينة وبعد قيام أركان الدولة الإسلامية فكانت سيوف الصحابة رضوان الله عليهم بالمرصاد لكل من تطاول على النبي صلى الله عليه وسلم ولو خارج ميدان الحرب ؛ كالنساء المتطاولات بالسب اللاتي قتلن في بيوتهن , وفي غالب الأحيان يكون ذلك بأمر منه صلى الله عليه وسلم ؛  قال الإمام تقي الدين السبكي -شيخ الأشاعرة في زمنه- رحمه الله  في كتابه السيف المسلول على من سب الرسول صلى الله عليه وسلم : (363) : فقد جرت أوامر النبي صلى الله عليه وسلم وسننه وسيره على قتل الساب، وكذلك سنة الله تعالى أنه يهلك من سبه ولا يؤخره ، وهكذا عرف واشتهر في حصار القلاع أنه متى وقع منهم السب أخذوا عاجلا ، حتى صار ذلك معروفا بين المسلمين يعلمون به قرب النصرة إذا تعرض الكفار لذلك.

 

وسرد الوقائع التي حصل فيها ذلك:

 

أمره صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بقتل عبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن هلال ابن خطل ومقيس بن صبابة وإن وجدوا تحت أستار الكعبة والحويرث بن نقيد وهبار بن الأسود وابن الزبعرى  ووحشي وقينتي ابن خطل وهما فرتنى وأرنب كان يقول الشعر يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهما تغنيان به وسارة مولاة عمرو بن هاشم مغنية نواحة بمكة كان يلقى عليها هجاء النبي صلى الله عليه وسلم فتغني به , قال السبكي: فقتلوا إلا ابن أبي سرح وهبار بن الأسود وابن الزبعرى وعكرمة ووجشي وفرتنى إحدى القينتين فأسلموا(السيف المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم للسبكي ص(139))

 

وقد ذكر هذه الوقائع أيضا تقي الدين بن تيمية -شيخ السلفية في زمنه- رحمه الله في كتابه الصارم المسلول(ص: 153)، وأضاف :

 

فهذه الأحاديث كلها تدل على أن من كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم ويؤذيه من الكفار فإنه كان يقصد قتله ويحض عليه لأجل ذلك وكذلك أصحابه بأمره يفعلون ذلك مع كفه عن غيره ممن هو على مثل حاله في أنه كافر غير معاهد بل مع أمانه لأولئك أو إحسانه إليهم من غير عهد بينه وبينهم.

 

وقد يكون قتل المتطاول بغير استئذان النبي صلى الله عليه وسلم كما في واقعة قتل عصماء اليهودية التي قتلها عمير بن عدي رضي الله عنه ,

 

  "إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه       ونكَّبَ عن ذكر العواقب جانبا 

 

  ولم يستشر في رأيه غيرَ نفسه        ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا"

 

وقد ذكر ابن تيمية في الصارم المسلول(ص: 286)  في كلامه على هذا الحديث أن ذلك أكثر ما فيه أنه افتيات على الإمام والإمام له أن يعفو عمن أقام حدا واجبا دونه , و أن هذا وإن كان حدا فهو قتل حربي أيضا فصار بمنزلة قتل حربي تحتم قتله وهذا يجوز قتله لكل أحد، قال: وعلى هذا يحمل قول ابن عمر في الراهب الذي قيل له إنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو سمعته لقتلته.

 

وقال تقي الدين السبكي في السيف المسلول(339)  : وأما كون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر فلعل ترك الإنكار خشية أن يتوهم عدم استحقاق القتل وللإمام أن يترك الإنكار لمثل ذلك ,

 

و أن مثل هذا قد وقع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المنافق الذي قتله عمر بدون إذن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يرض بحكمه فنزل القرآن بإقراره.

 

وقد علل ابن تيمية خروج الساب من إطار الدعوة السلمية وتعين قتله بقوله:إن مفسدة السب لا تزول إلا بالقتل لأنها متى استبقيت طمعت –يعني المرأة التي سبت- هي وغيرها في السب الذي هو من أعظم الفساد في الأرض, بخلاف المرأة المقاتلة إذا أسرت فإن مفسدة مقاتلتها قد زالت بأسرها.(الصارم المسلول ص285)

 

والدليل على أن القتل كان لمجرد السب قتل النساء لأجل ذلك ؛ قال السبكي في السيف المسلول : بعد ذكر قتل عصماء التي كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم : فإن قلت: الساب وإن وجب قتله لا يجوز لآحاد الناس قتله بغير إذن الإمام فلما لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم القتل دل على أن القتل لغير ذلك ,  قلت: أما كون القتل لغير السب فلا يمكن إذ لا محمل له غيره إذ لا تقتل المرأة بالكفر الأصلي. (339)

 

وقال فيه أيضا بعد ذلك (351): فثبت بهذه القصة وغيرها أن هذه النسوة إنما قتلن بشتمهن وسبهن ، وعلم بذلك أن السب لا يجوز التقرير عليه سواء أكان الساب معاهدا أم حربيا أم ذميا,

 

ثانيا قوله : فما الذي منع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من الانتقام من عدو الله تعالى عقبة بن أبي معيط وهو يضع سلا جزور.......

 

قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقم منهم بالوسيلة الممكنة في ذلك الظرف بحسب العادة أما المانع من الانتقام باليد فهو المانع من إقامته للجمعة في مكة في تلك الظروف والمانع من أداء الصلوات علانية في المسجد الحرام قبل إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما , والمانع من دخوله مكة عند مقدمه من الطائف قبل أن يجيره مطعم بن عدي. ويشير إلى ذلك قول ابن مسعود في حديث وضع سلا الجزور  (...وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال النووي في شرحه ((12/ 152) : ومعناه لو كان لي قوة تمنع أذاهم أو كان لي عشيرة بمكة تمنعني.

 

ومع ذلك فقد روي في مختصر الطبري أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم استأذنوه في قتال الكفار ، إذ آذوه بمكة غيلة ، فنزلت : { إن الله لا يحب كل خوان كفور } فلما هاجر إلى المدينة أطلق قتالهم ، قال ابن العربي : وهذا إن كان صحيحا فقد نسخه الحديث الصحيح : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من لكعب بن الأشرف ، فإنه قد آذى الله ورسوله فقام محمد بن مسلمة فقال : يا رسول الله ؛ أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم فقتله مع أصحابه غيلة  .وكذلك { بعث النبي صلى الله عليه وسلم رهطا إلى أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق ، فقتلوه غيلة } . أحكام القرآن لابن العربي (5/ 431)

 

وإذا كان المسلمون اليوم وهم مليار ونصف ودولهم قائمة ومساجدهم مقامة وثرواتهم هائلة رجعوا إلى أحكام مرحلة ما قبل الهجرة من تاريخ الإسلام , وليس لهم أن يفرحوا –على الأقل – بموت من يتطاول على النبي صلى الله عليه ويستهزئ به وبرسالته ولا أن يكون لهم "تصهال في محكمات الشُّكل"فيا ضيعة جهود الدعاة ودماء الفاتحين!!.

 

ولقد كانت كثرة العدد من مكامن العز والإباء عند العرب:

 

"أبى لهمُ أن يقبلوا الضيم أنهم    بنو ناتق كانت كثيرا عيالها"

 

وأين أبناء الإسلام منه -على كثرتهم- إذا لم يقدروا على الذب عن أعظم مقدساته

 

"أسرك يوما أن يقال : ابنُ دارم     وتُقصى كما يُقصى عن البرك أجرب"

 

ولقد أحسن العلامة المحدث عبد الله بن الصديق الغماري إذ يقول عن واقعة مماثلة  في كتابه السيف البتار لمن سب النبي المختار صلى الله عليه وسلم :  (ص 30):سكوت الدول الإسلامية عن كتاب آيات شيطانية أبان عن تقصير كبير وفقدان الغيرة الدينية من قلوبهم لاسيما وفي هذه الدول من تدعي السهر على حماية العقيدة الإسلامية مع أن الطعن في الرسول هدم للدين من أساسه

 

وقال في هذ السياق : (ص 26):

 

الحرية التي يلوكها الجهلاء والملحدون لها حد إذا تجاوزته كانت جريمة يعاقب عليها القانون، فليس من الحرية التهجم على الدين بالطعن والتزييف وجرح شعور المسلمين ، لأن الدين وضع إلهي والطاعن فيه معترض على الله تعالى ولا يعترض عليه إلا كافر ملعون وسب النبي صلى الله عليه وسلم طعن في الدين وهدم له من أساسه.

 

ثالثا قوله وما قصة الطائف وأفعال سفهائها من سفهاء مكة ببعيد.........

 

واقعة الطائف لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلا زيد بن حارثة كما لم يكن معه في واقعة مكة غير ابن مسعود رضي الله عنهما فالانتقام بالسيف والقوة غير ممكن حسب العادة  وقد أسلفنا وجه عدم قبوله إنزال عقوبة الاستئصال  بهم ؛ قال ابن حجر في فتح الباري معلقا على هذه الواقعة : وفي هذا الحديث بيان شفقة النبي صلى الله عليه و سلم على قومه ومزيد صبره وحلمه وهو موافق لقوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم وقوله وما أرسلناك الا رحمة للعالمين. (فتح الباري (6/ 316)

 

لكن تلك الرحمة والصبر والحلم التي هي من عظيم خلقه صلى الله عليه وسلم  وإن كان له العمل بمقتضاها في حق له فليس ذلك لمن بعده ؛ قال ابن حجر في فتح الباري (5/ 40)بعد حديث الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أن كان ابن عمتك... : ويمكن أن يستدل به على أن للإمام أن يعفو عن التعزير المتعلق به لكن محل ذلك ما لم يؤد إلى هتك حرمة الشرع وإنما لم يعاقب النبي صلى الله عليه و سلم صاحب القصة لما كان عليه من تأليف الناس كما قال في حق كثير من المنافقين لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه , قال القرطبي فلو صدر مثل هذا من أحد في حق النبي صلى الله عليه و سلم أو في حق شريعته لقتل قتلة زنديق ونقل النووي نحوه عن العلماء والله أعلم

 

وقال ابن العربي في تعليقه على الحديث عند قوله تعالى {فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} : وكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر ، لكن الأنصاري زل زلة فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه وأنها كانت فلتة ، وليس ذلك لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. (أحكام القرآن لابن العربي (2/ 408)

 

رابعا قوله وفي هذه القضية فقه كبير فإن ابن الأشرف كان بمثابة جيش كامل ودولة اجتمع فيه التخطيط والدعاية....

 

الحديث يدل بمسلك النص على أن علة الأمر بقتل كعب بن الأشرف أنه يؤذي الله ورسوله , , ونصوص العلماء صريحة في أن قتله كان لإيذائه للنبي صلى الله عليه وسلم لا لأنه "كان بمثابة جيش كامل ودولة"؛ ولم يجد قَتَلتُه معه إلا امرأته , قال البغوي في شرح السنة (11/ 46): وفي الحديث أن كعب بن الأشرف عاهده ، فخزع منه هجاؤه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أي : قطع ذمته وعهده.

 

وقال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد (11/ 71)بعد ذكر مقتل أبي رافع : وفي قصته وقصة كعب بن الأشرف أن من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ذمة له ودمه هدر ولهذا رأى مالك رحمه الله قتل الذمي إذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآذاه

 

ونقل ابن بطال في شرح البخاري (5/ 190) عن بعض شيوخه ,  قال : إن قتل ابن الأشرف هو من باب أن من آذى الله ورسوله قد حل دمه ، ولا أمان له يعتصم به فقتله جائز على كل حال ؛ لأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إنما قتله بوحى من الله وأذن فى قتله.

 

عن الطبري . قال غيره : ألا ترى لو أن رجلا أدخل رجلا مشركًا فى داره فأمنه فسب عنده النبى ( صلى الله عليه وسلم ) حل بذلك للذى أمنه قتله.

 

وفي فتح الباري (5/ 143) : وقال السهيلي في قوله (من لكعب بن الأشرف) جواز قتل من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو كان ذا عهد.

 

وقال السبكي في السيف المسلول (325) بعد ذكر مقتل أبي عفك اليهودي، وهذا دليل على أن اليهودي الموادع إذا سب يقتل غيلة وأن ذلك من القربات التي تلزم بالنذر وأن ذلك كان معلوما عند الصحابة.هـ

 

"إذا مارق بالغدر حاول غدرة    فذاك حريٌّ أن تئيم حلائله"

 

خامسا قوله : وعند دخول عمير بن وهب قادما من مكة.......

 

هذا خارج عن سياق الواقعة التي حديثنا عنها لأن عميرا ما سب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ساقه الله لتظهر له وللمؤمنين معجزة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالمغيبات فكان ذلك سبب هدايته , ولهذه الواقعة نظائر أوردها العلماء في دلائل نبوءته صلى الله عليه وسلم، منها ما وقع مع فضالة بن عمير وشيبة بن عثمان ودعثور بن الحارث ... (انظر أعلام النبوءة للماوردي 1/498)

 

سادسا قوله : وتبرز ضمن هذه الأمثلة حادثة الإفك....

 

هذا  بمعزل عن السياق الذي يجري فيه الحديث لأن قصة الإفك ليس فيها تطاول مباشر على مقام النبوءة وقد شارك فيها بعض الصحابة رضوان الله عليهم ومنهم من شهد بدرا كمسطح الذي نزل في قطع أبي بكر عنه ما كان يجري عليه من الصلة قوله تعالى {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة...}الآية , ولم يعتبر ذلك ردة من هؤلاء فضلا عن أن يكون تطاولا على المقام النبوي .

 

وابن أبي المنافق كان مطويا على بللاته متروكا تحت غطاء تظاهره بالإسلام وعلة عدم قتله معروفة ؛ قال ابن بطال في شرح البخاري :  وقيل لمالك : لم يقتل الزنديق ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يقتل المنافقين وقد عرفهم ؟ فقال : لأن توبته لا تعرف ، وأيضًا فإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لو قتلهم وهم يظهرون الإيمان لكان قتلهم بعلمه ، ولو قتلهم بعلمه ؛ لكان ذريعة إلى أن يقول الناس قتلهم للضغائن والعداوة ، ولامتنع من أراد الإسلام من الدخول فيه إذا رأى النبى ( صلى الله عليه وسلم ) يقتل من دخل فى الإسلام ؛ لأن الناس كانوا حديث عهد بالكفر . هذا معنى قوله ، وقد روى عن النبى ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( لئلا يقول الناس أنه يقتل أصحابه ) شرح صحيح البخارى ـ لابن بطال (8/ 575)

 

وقال النووي في شرح مسلم (16/ 138) عند الحديث ( دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل اصحابه ) فيه ما كان عليه صلى الله عليه و سلم من الحلم وفيه ترك بعض الامور المختارة والصبر على بعض المفاسد خوفا من أن تترتب علي ذلك مفسدة أعظم منه وكان صلى الله عليه و سلم يتألف الناس ويصبر على جفاء الاعراب والمنافقين وغيرهم لتقوى شوكة المسلمين وتتم دعوة الاسلام ويتمكن الايمان من قلوب المؤلفة ويرغب غيرهم في الاسلام وكان يعطيهم الاموال الجزيلة لذلك ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى ولإظهارهم الاسلام وقد أمر بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ولأنهم كانوا معدودين في اصحابه صلى الله عليه و سلم ويجاهدون معه إما حمية وإما لطلب دنيا أو عصبية لمن معه من عشائرهم قال القاضي واختلف العلماء هل بقي حكم الاغضاء عنهم وترك قتالهم أو نسخ ذلك عند ظهور الاسلام ونزول قوله تعالى جاهد الكفار والمنافقين وأنها ناسخة لما قبلها وقيل قول ثالث أنه إنما كان العفو عنهم مالم يظهروا نفاقهم فاذا أظهروه قتلوا.

 

ولا يتوهم أن قول النووي هنا : (..وترك بعض الأمور المختارة والصبر على بعض المفاسد خوفا من أن تترتب علي ذلك مفسدة أعظم منه) يتنزل على واقعتنا إذ لا مفسدة أعظم من التطاول على النبي صلى الله عليه وسلم , والحديث الذي ذكر فيه النووي هذا ليس فيه تطاول مباشر كما أسلفنا .

 

وفي قتَلة كعب وأبي رافع يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه :

 

لله در عصابة لاقيتهم          يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف

 

يسرون بالبيض الخفاف إليكم     مرحا كأسد في عرين معرف

 

حتى أتوكم في محل بلادكم          فسقوكم حتفا ببيض دُفَّف

 

مستنصرين لنصر دين محمد        مستصغرين لكل أمر مجحف

 

سادسا يقول بعض الدعاة إن هذا النوع من العمليات يشكل حجر عثرة في طريق الدعوة وينفر من الإسلام..

 

الاسلام لم يكن في عصر من العصور يؤخذ من أعمال أفراد المسلمين لأنهم غير معصومين بل ربما يكون خطؤهم أكثر من إصابتهم , إنما يقرأ الإسلام من القرآن وقول النبي صلى الله عليه وسلم وعمله وإجماع الأمة , هذه هي رسالة النبي صلى الله عليه وسلم التي بعثه الله بها, ومهمة الدعاة تبليغها سالمة من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين , وما دخل الإسلام من دخله من الشعوب الغربية بمجرد النظر إلى تصرفات أفراد المسلمين  التي يشاهدونها  , بل بدراسة كتب الإسلام  أو صحبة العلماء الربانيين الذين يلقنونهم تعاليم الإسلام على وجهه الصحيح.

 

الإسلام ليس دين العنف والفوضى

 

لا تقتضي النصوص الواردة في التعامل مع مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بالخصوص أن الإسلام دين القتل والعنف والفوضى, كلا , بل هو دين الحياة والطمأنينة والتراحم والعدل والإحسان والوفاء بالعهود , ولا يسمح بالعنف والفوضى لا في بلاد المسلمين ولا في بلدان غيرهم , وقد حقن الله بالإسلام دماء كانت تراق قي الجاهلية جزافا فحصر أسباب القتل ونظمها بضوابط وشروط محددة قال الله تبارك وتعالى {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}

 

وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحق الذي تقتل فيه النفس بقوله في الحديث المتفق عليه (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك للجماعة)

 

وقد عد قتل النفس بغير حق من موبقات الذنوب في الحديث المتفق عليه : اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)

 

نعم شرع الجهاد لإعلاء كلمة الله بآيات منها قوله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} لكن له شروطا بينها العلماء في محالها لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد اجتماعها , وهو أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله وهو الخيار الأخير فلا يشرع إلا بعد اليأس من الدخول في الإسلام طوعا أو الدخول تحت حكمه بأداء الجزية , أو الهدنة أوالمصالحة , وقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم يهود المدينة على غير مال يدفعونه, وعقد هدنة مع قريش في الحديبية , وصالح أهل جربى وأيلة في الروم في غزوة تبوك , ورجع عن أهل الطائف بعد ما غزاهم وحاصرهم لما كان الاستمرار في حصارهم يؤدي لمزيد من القتل .

 

وليس القتل في الجهاد مقصودا لذاته كما يفيده قوله تعالى في الآية السابقة {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ}ولا مطلوبا مطلقا ؛ فلا يقتل إلا المقاتلون وقد نهى النبي صلى الله على وسلم عن قتل المرأة والصبي والراهب والشيخ الفاني,

 

وبعد القدرة على المقاتل حيا لا يتعين قتله فقد جعل الله للإمام الخيار في شأنه بين أمور بدأها بالمن عليه ؛ قال تعالى {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}

 

وللأسرى والذميين حرمة كبيرة في الإسلام ؛ فمن الصحابة من يؤثرون الأسير على أنفسهم وقد مدحهم الله بذلك , وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الذب عن حرمة الذمي  :(من آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة) وفي حرمة المعاهد (ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة) وشواهد الوفاء بالعهود واحترام المسلمين لغيرهم من المُسالمين كثيرة في العهد النبوي وبعده.

 

وأما ما يقع اليوم في بلاد المسلمين وغيرهم –تحت مظلة الجهاد- من هجمات مسلحة بدوافع محتلفة  فتلك أمور يمكن الحكم عليها بمقتضيات سياسات الشرع العامة التي يختص النظر فيها بأهل الحل والعقد , ومن الصواب النظر فيها للمآلات والموازنة بين المصالح والمفاسد , أما الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدونها خطوط حمراء , ولا مساومة فيها , وهي عدوان على كل مسلم , و كل فرد من أفراد الأمة موتور بها , ولا تقيدها ضوابط الجهاد , ولا يختص النظر في ما يترتب عليها بولاة أمور المسلمين ؛ لأنها طعن في مقتل الأمة بأسرها.

 

وقبل أن أختم، أجدد اعتقادي الجازم بأن فريقا من هؤلاء المفكرين والكتاب ـــ وإن كاد كلامهم ينغص على المسلمين فرحهم بهلاك المستهزئين ـــ هم حماة للدعوة ومشفقون عليها وعلى بيضة الإسلام ومصالح المسلمين، ومواقفهم الكثيرة في هذا المقام شاهدة على ذلك.

 

وليس فرار اليوم عار على الفتى       إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس

 

وفقنا الله جميعا لما فيه رضاه وصلى الله وسلم على سيدنا محمد  الشافع المقبول صاحب الوسيلة والفضيلة المقام والمحمود.