رحلة على طريق الانعتاق

-A A +A
خميس, 2022-09-08 11:46
الشيخ احمد مودي

كانت البداية في ال 26 أغسطس 2022 حين وصل النائب برام الداه اعبيد إلى مدينة كيفه مستهلا زيارة اتصال لعدد من القرى والمدن في ولاية لعصابه.

رافقنا النائب بطلب منه لتغطية أحداث الجولة طيلة أسبوع كامل كان في جوف الخريف؛ حيث تتهاطل الأمطار بتتابع وتسيل الأودية وتنتشر الأوحال في كل مكان من الطريق بعد أن لبست الأرض ثوبها الأخضر في موسم هو الأحسن منذ عدة سنوات.

مرورا بمدينة كنكوصه كان مرشدون مناضلون في انتظارنا على الطريق فقادوا الموكب المؤلف من ثلاث رباعيات إلى عاصمة البلدية ابلاجميل وعلى طول الطريق كانت مظاهر البؤس ترتسم على كل وجه وتنطق في كل قرية رغم جمال الطبيعة هذه الأيام وسخائها.

جموع شعبية بقرية ابلاجميل استقبلت برام بالطبول والزغاريد، ثم وصلت الدراجات النارية من مختلف القرى المحيطة وهي تنقل ممثلين لحضور المهرجان.

الضيف فضل الاستماع أولا إلى آراء الناس فيما يجري في أحوالهم وأحوال الدولة وكيف يعيشون وهو ما تحدث به العشرات فبدأوا بمشاكل الشراب مرورا بأزمات التعليم والصحة وتأمين الغذاء وانتهاء بالعزلة وبغياب مراكز الحالة المدنية.

برامه كان يعلق على كل تلك النقاط صابا جام غضبه على الأحكام المتعاقبة على البلاد منذ 1978 ووسائطهم من المنتخبين ورجالات القبائل والأطر؛ ومحملا المسؤولية في مآسي السكان من جانب آخر إلى سلبيتهم اتجاه الانتخابات حيث تُصادر آراؤهم - يقول برامه- ويصوتون بدوافع قبلية ومزاجية وتحت ضغط النافذين ترغيبا وترهيبا.

ليلة أبلاجميل كانت مشحونة بالنقاشات وكان الناس ينهالون على الرجل بالأسئلة وهو يجيب بكل براعة.

في الصباح أبكر الوفد فمررنا بقرية كويره الفلانية ؛ حيث جلس برامه إلى الأهالي لتناول الفطور، وجبة بَاسِ بلبن البقر الشائعة في هذه الأوساط، و فيها ضم إليه طفلا سمي باسمه تقديرا له ،وفيها كما في قرى إزواز،تكلوز، التنكال، تناها ، اندرنيه وفي مركز هامد ومدينة كنكوصه وغيرها كانت الاستقبالات حاشدة وكان الرجل يحرص على الاستماع إلى الناس قبل أن يتحدث إليهم.

في هذه المناطق المعزولة التي لم يلجها سياسي معارض على الإطلاق بحجم الرجل منذ استقلال البلاد سمع الناس أشياء جديدة حول ما يقاسون. تمت مهاجمة المهيمنين على الحياة هناك بأبشع الأوصاف وتم تحطيم القداسة والكبرياء الذي طبعوه في أذهان الجماهير، وقام هذا البرام بنشر غسيلهم وتحويل صورتهم إلى أعداء يمصون دماء الشعب ويتآمرون عليه ويعترضون ما تقدمه الدولة.

يلبسون الحرام – يقول برامه - ويركبون الحرام ويأكلون الحرام وينطقون بالإفك إنهم أصحاب غل وأكلة بيت مال المسلمين.

قام الرجل بتمريغ أنوفهم في التراب ؛وهم السادة الذين لا يشق لهم غبار وهناك فتح عليهم أبواب جهنم فأنهال عليهم الأقربون في هذه القرى نقدا و شتما ،مدركين فجأة على يد رئيس إيرا أنهم سبب ويلاتهم.

هؤلاء كانوا يبشرون بجنات يخلد فيها الناس فور انتهاء عمليات التصويت وكانوا يوزعون بعض الهدايا ويطلقون المواعيد.

اختلف الرجل وقال في كل هذه المحطات أنه لا يأتي بدرهم ولا دينار ولن يعد أحدا بوظيفة أو راتب إنما يأتي ليهدي الناس إلى طريق الخلاص والتحرر وإلى سبيل ينسيهم السنين العجاف ويجعلهم يستردون حقوقهم ويذوقون طعم ثرواتهم ويعيشون بكرامة. إنه امتلاك زمام المبادرة وجعل أصواتهم سلاحا للعقوبة والمكافأة والتصويت لمشروعه الإصلاحي ويومئذ يُبعثون إلى حياة كريمة.

في هذه الطريق الوعرة، وهذه المسالك الطبيعة الصعبة لم تقم الدولة الموريتانية - فيما يردده برامه - بأي عمل لفك العزلة ويؤكد في كل اجتماع أن الأمر متعمد ،الهدف منه بقاء هؤلاء على هامش الحياة فيسهل على السماسرة توجيههم واستغلالهم.

سيارات الموكب انغرست في الطين عدة مرات خُيل إلى فيها أنا باقون لعدة أسابيع غير أن أي عابر أو أية قرية تعلم بالضيف برامه يهب رجالها دفعة واحدة فيحملون السيارة في لحظات إلى بر الأمان.

وهناك ستبقى في ذاكرتي حركة واندفاع شباب قرية "أندرينه" في غسق من الليل لإنقاذ السيارات من الوحل في تلك الأدغال في ليلة ظلماء ممطرة ومخيفة حيث تتجاوز الأعشاب أبواب سيارتنا مع ما يجري في تلك النباتات الكثيفة من أفاعي وعقارب وغير ذلك من مخاطر.

حين بدأ الرجل جولته كانت كل محطة تعقب أخرى أكثر تجاوبا وحماسا وبمقياس حجم السكان فقد كانت محطات اندرنية وهامد وكنكوصه وتناها وكيفه وكذلك كرو محطات مليونية.

في ساني وفي لكران كان الجمهور مختلفا حيث حضر بكثافة سكان هذه البلدات من كل الأولوان والمشارب وفيها كان برامه أكثر سعادة فبادر إلى خطاب آخر ملؤه تحسين صورته أمام الذين لا يعرفونه ،وسرد الأحداث التي طارت حولها الشائعات ؛فركز على حادثة حرق الكتب وعلى مقارعته للعبودية وموقفه من هذه المواضيع كلها ،فبدا الارتياح والتفهم على الوجوه لما يقول وصار الناس يناجي بعضهم بعضا هل هذا هو البرام الذي نسمع عنه؟

في هذا الطريق الطويل كان الوقع شديدا على الشخصيات التي استأثرت بالمنطقة حيث هرع بعضهم لمحاصرة الزيارة ودعوة الناس لمقاطعتها، وهو ما فشلوا فيه وصمم الناس هناك على الحضور وهو ما أعتقد أنه بداية تصدع الجدار.

في هذه المرة يردد الكبار في القرى المزورة أنهم عارضوا توجهات أبنائهم ودعوتهم للتمرد خلال السنوات الماضية وفي هذه يؤكدون على تمكين الشباب من القيادة والسير وراءهم أينما اتجهوا.

الذي لفت انتباهي وشدني في هذا الرهط الذي رافقته هو سمو أخلاقه وطيب رفقته واحترام بعضه للبعض ،ولقد شاهدت من الإخلاص للمبدإ والتفاني في القضية وحسن التنظيم والبراعة في التكيف والتعامل السريع مع الطوارئ ما يجلعني أجزم ببلوغ رسالة القوم.

كان ولد أعبيد شعبيا إلى أبعد الحدود، متواضعا ودودا يتأقلم تلقائيا مع ما يصادفنا في هذه الأجواء الريفية سواء تعلق الأمر بتقاليد الضيافة البدوية الكريمة وغياب الحمامات في أحيان كثيرة ،وما نواجهه من باعوض وحشرات خريفية وتلوث مياه الشرب إلى غير ذلك . كان يأخذ من هذه الأشياء مواد لخطابه ونعت ما يقاسيه الناس رغم وجود دولة ،وكان المبيت في تناها حيث تتراءى الكهرباء وتتعالى الهوائيات وتنبسط الطرق وتتصبب مياه الحنفيات على الجانب الآخر من الحدود حجة أخرس بها برامه لسان نظام بلاده وأبرز درجة الإخفاق التي عاشتها الدولة؛ حيث يلجأ سكان تناها إلى تلك الخدمات في الجانب المالي ولا يذكرون معروفا في حكومتهم.

طيلة أيام الزيارة كان النائب برامه يشد نظر السلطات والسياسيين وكافة القوى الحية بولاية لعصابه بين من يرى فيه تهديدا جسيما لمكانته السياسية ولكعكته وخطرا حين يمزق قيود المستضعفين الذين هم وقود الانتخابات ووسيلة المتنفذين لنيل الامتيازات، وبين من يعلق عليها الأمل ويحسبها بداية الخلاص.

بدت سلطات البلاد تعسة ومهزوزة حين منعت الرجل من عقد مهرجاناته في المقار العمومية في الوقت الذي تتغاضى للقبائل والجمعيات الهزلية وأحزاب المخزن؛ وهو الفعل الذي عاد بنتائج عكسية فتدفق أنصار برامه إليه من كل فج.

تتفاوت طبقات الصوت لدى الخطيب برامه بدرجة ما يسمعه من أنات لدى الحاضرين من حال وصفهم لأوضاعهم فيغصب لذلك بشدة ويكون دون ذلك في محطات أخرى.

استشاط الرجل في تناها وفي بلوار وفي كرو وكيفه وكان دون ذلك في أماكن أخرى.

فضل دائما أن يكون الناس هم من يتحدثون كيف يعيشون وكيف يتعامل الساسة معهم وما إذا كانت الحكومة تقدم لهم شيئا. وفي كل المحطات كان حال هؤلاء مبكيا حيث لا ماء ولا دواء ولا تعليم ولا غذاء ولا حالة مدنية.

ركز برامه على علاقته بغزواني أيام الوصل وكيف كان يريد تسييرها لصالح الدولة والمجتمع قبل أن يفسدها وزير داخليته ويقنعه بالتراجع عن ذلك التوجه، وفي هذه النقطة يؤكد برامه أن منع الأحزاب وإغلاق مراكز الحالة المدنية هي خطط لهذا الوزير يهدف من ورائها إلى محاصرة قوى التغيير عامة.

حين يعود أقطاب اللعبة السياسية يتعقبون آثار ولد أعبيد ستكون مهمتهم صعبة للغاية لترميم ما خربه من بنائهم، وسوف يكتشفون أن مجاري المياه تغيرت وهو ما سيقود في اعتقادي إلى تمزق القيود التي تكبل الناس من قبلية وتخويف ومحاصرة.

سمع الناس هناك بكل جوارحهم ما ينادي به الرجل وتحطمت لديهم الثقة في أصحابهم القدماء وفهموا أن الدولة تهمشهم وأن هؤلاء هم سبب أزمتهم.

كانت مدينتا كرو وكيفه ختاما مسكا لهذه الزيارة حيث خصص السكان استقبالات شعبية بينت أن الرجل صار يزداد قبولا ويسير نحو مراتب الزعامة.

لم تربطني بهذا الرجل معرفة سابقة، ولست منتميا لحركة إيرا ولا أنا منتسب لحزب الرك ولا يقنعني جميع ما يقوله، غير أن مواطن الاتفاق معه أكبر بكثير من نقاط الاختلاف ؛وإني لسعيد بإيلامه وحربه على النخب التي سببت ما نعيشه من ويلات منذ استقلال البلاد، وأنا فخور بكونه إلى جانبي نستظل بالخيمة الكبرى للتيار التقدمي الوطني.

هي رحلة على طريق الانعتاق مفضية لا محالة إلى تحرير إرادة الناس وتحريكهم لرفض واقعهم المر وتلمس حياة أخرى نحو الأفضل. إنها تؤرخ لعهد جديد.

الشيخ ولد أحمد المدير الناشر لصحيفة وكالة كيفه للأنباء