العبودية في موريتانيا بين انتفاء الأصل الشرعي ورسوخ المواضعات الاجتماعية الزائفة

اثنين, 2015-03-02 13:14

كثيرون كتبوا عن مسألة العبودية في موريتانيا، فأصَّلُوا وحَلَّلُوا وبذلوا جهودا في البحث لا يمكن أن ينكرها ذو بصر ولا بصيرة، غير أن أغلبهم ـ إن لم نقل كلهم ـ لم يتعرض إلى المسألة في جذورها الأولى ولا في مآلاتها الحالية، وإنما اكتفي في الغالب بالمظاهر والمخلفات، مسترشدا بمعطيات واقع مجتمعي انبنى بالأساس على اختلالات لا تكاد تحصر، من هنا جاءت فكرة تناول هذا الموضوع من زاويتين أولاهما تبحث في إشكالية شرعية الممارسة على الأقل في الأفق الموريتاني، وثانيتهما تتناول رسوخ المواضعات الاجتماعية السلبية التي أوجدتها ممارسة لا شرعية بالمفهوم الديني والقانوني والأخلاقي.

 

أول: انتفاء الأصل الشرعي للعبودية في موريتانيا

لا يختلف اثنان من المهتمين بتاريخ هذا البلد على أنه مر بعهود من "السيبة" والفوضى ، كان البقاء فيها للأقوى ، فالمنطق السائد منطق قوة لا منطق دين ولا عقل ؛ حيث تغزو القبيلة الأخرى لأتفه الأسباب هادفة لإبادتها عن بكرة أبيها، بل وربما حشدت لذلك قبائل عديدة تربطها بها علاقات عرقية أو جوارية أو حتى مصالح تافهة، وقد تغار القبيلة على الأخرى فتسوق مواشيها أو  تأسر أبناءها وبناتها لتبيعهم في أسواق البشر دون وازع من دين ولا رادع من قيم.

 

ولا يمكن أن يختلف اثنان أيضا على أنه بمنطق هذا الصراع هُتِكت حرمات وخُرِّبتْ بيوت وأُريقت دماء واسْتُعبد أحرار، دون أي وجه شرعي؛ إذ لا يمكن لأحد أن يفكر في إيجاد مبرر ديني ولا أخلاقي لمثل تلك التصرفات، ضف إلى ذلك أن بعض الأفراد في هذا الفضاء الجغرافي كانوا يمارسون مهنة السطو المسلح على القرى والأرياف وحتى الأحياء البدوية فيختطفون الأبناء والبنات من أحضان آبائهم ثم يبيعونهم رقيقا لا لشيء إلا لسواد في بشرتهم ولكنة في ألسنتهم وكأن  كل من هذه صفاته هو عبد يستحق أن يجلب إلى سوق النخاسة حالما يقدر عليه  مقيد الأيدي مقرونا بحبل مع ناقة أو تجره فرس في عمليات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها أسوأ بكثير مما عرفته جزيرة العرب في عصرها الجاهلي.

 

بهذه الآلية الظالمة امْتُلك العبيد في موريتانيا، ويا ليتهم حين امْتُلكوا عاشوا عبوديتهم وفقا لمعطيات الشرع الإسلامي، حيث يساوى بين العبد وأبناء مالكه في الأكل والشرب والفراش فهم إخوان كما قال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام معاتبا أبا ذر رضي الله عنه: (يا أبا ذر أعيرته بأمه ؟! إنك امرؤ فيك جاهلية، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم).

 

لقد امْتُلك هؤلاء ظلما ، وعُبِّدوا ظلما ، فتّمَّ تجهيلهم عمدًا حتى لا يتحررون ، وقُطِّعت أنسابهمْ عمدا حتى لا يتعارفون، وحرموا حتى من أبسط حقوق الإنسان، فضُيِّق عليهم في أسماء البشر بأن أطلقت عليهم ألقاب تُمجِّدُ السيد عادة وتدعو له أو تُحَقِّر العبدَ وتنال منه، ثم شُرِّعَ لهم الزنى، ووُضِعت معالم شريعة موازية للإسلام يعاملون وفقها خارج كل إطار يمكن للعقل البشري أن يستوعبه.

 

لنفرض جدلا أن الآلية التي امتلك بها هؤلاء العبيد كانت صحيحة ـ وهو فرض بعيد من الصحة يفنده أكثر من دليل ـ لكن لنفرض جدلا صحته، ألا تكفي هذه المعاملات الفجة والأساليب السيئة المخالفة لمعطيات الشرع وثوابته ، لتحررهم من نير هذه العبودية!! كما حررت عبيد قريش إبان إشراقة نور الحق في سماء جاهليتهم البغيضة، أحرى إذا علمنا بأنهم اسْتُعبِدوا أصلا بطرق لا شرعية ولا منطقية.

 

ثانيا: المواضعات الاجتماعية الراسخة

لقد أوجدت الظروف  الساسية والاجتماعية السالفة واقعا اجتماعيا مختلا ومنظومة من المثل والقيم لا تمت في مرجعيتها إلى الإسلام بصلة ، فالتفاضل يتم على أسس انبنت على منطلقات غير سوية وما بني على باطل فهو باطل كما تقول القاعدة الفقهية ، لقد صنفت هذه  المنظومة المجتمع إلى صنفين:

 

أسياد: يسوسون ويسودون، يملكون غيرهم ويتصرفون في ماله وعرضه، وهم علية القوم  وفرسان الوغى وحماة الشرع وسادة المنابر.

 

عبيد: يساسون ويسادون، لا يملكون شيئا من أمر أنفسهم ، فهم مُجَهُّلون لا يجب علهم التعلم بل لا يحق لهم أصلا حتى ولو رغبوا فيه ، يهان شيوخهم ويستعبد شبانهم وتسرى نساؤهم ، لا يراعى فيهم شرع ولا يحترم فيهم عقل ولا منطق.

 

هذه التقسمة الاجتماعية الظالمة تأسست وفقها المنظومةُ القيمية وتغلغلت إلى أعماق الثقافة ، فباتت جزءا من الوعي الجمعي سواء لدى أبناء الأسياد أو أبناء العبيد أنفسهم ، ف:اتسودين ـ مثلا ـ أو ـ اتحرطين ـ كما يسميه البعض صفة دالة على كل متعجرف سيء الخلق أو الخلقة أو هما معا بعيد من اللياقة واللباقة ، وفي مقابله نجد : اتبيظين كتعبير عن رجاحة العقل واللبابة والظرافة وغيرها من الصفات المحبوبة، ضف إلى ذلك أن هناك ألفاظ وصفات لا يمكن إطلاقها على العبيد صغارا ولا كبارا: فالرجل صفة للحر فقط وكذلك المرأة أما الأمة والعبد فألقابهم مخصوصة ومنقوصة:

 

أَدبايْ امعَدَّل عِبرَ     اْوهِيَّ  كاعْ أكبَر لفَّاجِل

إيكولُ للخادمْ لمْرَ       وايكولُ للعبدْ الرَّاجلْ

 

 هذان مثالان فقط من أمثلة كثيرة لا يمكن حصرها في هذه العجالة، غير أنهما يعطيان انطباعا عن هذه الاختلالات الراسخة والمترسخة رغم هشاشة المرجعية التي أوجدتها شرعا وعرفا.

 

ولئن كان بإمكاننا القول اليوم إن منافذ العبودية قد سدت، فلم يعد بإمكان أحد أن يختطف أحدا ويستعبده ، فلا يمكننا أبدا أن ندعي أن ممارسة الاستعباد قد انتهت بشكل كلي رغم أنها تقلصت بشكل ملحوظ ، الذي بقي وما يزال باقيا وقليلون من انتبهوا إليه أن هنالك اختلالات في اللغة والخطاب ، في الثقافة الشعبية ومنظومة الأمثال بصفة خاصة ، تكرس عبودية من نوع خاص ،ولا بد من معالجة هذه العبودية واستئصالها بالموازاة مع العبودية الجسدية، إذ العلاقة وثيقة بين نمطي الاستعباد هذين.

 

والذي يمكن أن نخلص إليه من خلال تناولنا لهذا الموضوع يتلخص في نقاط قد يكون من آكدها:

 

ـ أن العبودية في موريتانيا ممارسة جاهلية أوجدها التشابه بين واقع بلاد السيبة وواقع المجتمع الجاهلي قبل الإسلام

 

ـ أن معاملة العبيد في المجتمع الموريتاني خلال العقود الماضية كانت خارجة على كل شرع وقانون وأخلاق ، ومن ثم فالعبيد امتلكوا بالظلم وعُوملوا بالصلف والجور.

 

ـ أن منافذ العبودية سدت وممارستها تقلصت غير أن آثارها ما تزال تنكئ الجروح وتمنع النسيان.

 

ـ أن الاختلالات الاجتماعية التي أوجدها واقع السيبة ما تزال راسخة في اللاوعي يتوارثها الأجيال في الخطاب والعادات وأطر الثقافة الشعبية المختلفة.

 

ختاما أود أن أنبه إلى أنني هنا لا أحمل المسؤولية لشريحة معينة ولا أسعى إلى النيل منها أو التعريض بها، فممارسوا الاستعباد بادوا عفا الله عنهم، وما على أحد أن يدافع عن أخطائهم بحجة أنهم آباؤه بقدر ما يجب عليه أن يسعى لتصحيحها حتى ينالوا بها خيرا.

 

محمد أحيد الشيخ سيدي محمد - كاتب وشاعرمحمد أحيد الشيخ سيدي محمد - كاتب وشاعر