من أجل إستراتيجية شاملة لتطهير خطابنا من العفن الفكري

-A A +A
ثلاثاء, 2015-03-31 18:16
السالك ولد عبد الله

المتتبع لما تنشره المواقع الإلكترونية وتبثه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة عندنا؛ وما يتداوله مفكرونا وسياسيونا ومثقفونا ومدوّنونا من نقاشات وجدل محموم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لا بد أن ينتابه شعور بأننا نعيش وضعا أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه غير طبيعي..

يطل علينا بين الفينة والأخرى زعيم حزب سياسي، أو برلماني ينتمي لما يعرف بالأغلبية الرئاسية الموسعة فيتحدث عن الديمقراطية والشفافية والحكامة الراشدة، ويصب جام غضبه على المعارضة وعلى الصحافة وعلى الجمعيات الحقوقية وعلى الأنظمة المتعاقبة على حكم البلد منذ الاستقلال إلى اليوم.. ثم يرسم لوحة وردية لواقع البلد وظروف عيش المواطنين؛ جازما بأن هذه البلاد كانت جحيما لا يطاق ومرتعا خصبا للنهب والفساد قبل أن يمن الله عليها بهذا النظام وهذا الرئيس الذي حولها إلى واحة من الرخاء والسلم ورغد العيش...

يخرج علينا زعيم معارض فينسف تلك الصورة الوردية ويرسم، بدوره، لوحة قاتمة شهباء؛ مؤكدا أن هذه البلاد كانت جنة رخاء وسلم ورغد عيش لجميع الموريتانيين قبل أن يبتليها الله بهذا النظام وهذا الرئيس فتحولت إلى جحيم لا يطاق ومرتع خصب للنهب والفساد...

وبين هذا وذاك، يتبارى مفكرونا ومثقفونا ومحللونا في استعراض قدراتهم الخطابية وإبراز مواهبهم في الجدل والسفسطائية.. منهم من يقارن البلد بجيرانه ليخلص إلى أننا أفضل حالا بكثير من دول مجاورة مثل مالي التي عانت من حرب داخلية طاحنة استدعت تدخلا عسكريا من قوى أجنبية؛ ومن ليبيا التي سقطت في أتون الصراعات المسلحة وباتت وقودا لحرب لا تبقي ولا تذر؛ فيما يركز آخرون تلك المقارنة على دول مثل السنغال والمغرب اللتين تم فيهما خفض أسعار الوقود إثر انهيار أسعار النفط على مستوى العالم ونجتا من حالة التأزم السياسي والتوتر الاجتماعي المتزايد عندنا..

وفي خضم استمرار اتساع الفجوة بين طرفي هذه الثنائية المتأصلة في الطرح والخطاب والتحـ(ض)ـليل؛ يحرص قادة الرأي في بلدنا على البقاء متفقين، حد التطابق، في النأي المتعمد عن كل ما له صلة بالهموم الحقيقية والمشكلات المستفحلة التي تثقل كواهل الموريتانيين وتؤرق مضاجعهم بشكل مقلق..

فخطاب الموالاة يظل محصورا في اجترار ما يردده الرئيس في خطبه الرسمية من مفاهيم من قبيل "محاربة الفساد والمفسدين"، و "تراكمات الأنظمة السابقة"، و "العناية بالفئات المحرومة"، و"حفظ المال في خزينة الدولة".. وكأن الفساد والمفسدين يملكون قدرة خارقة على الصمود والمقاومة؛ و التراكمات لا تعالج إلا بتراكمات أخرى (داوني بالتي كانت هي الداء)؛ والفئات المحرومة يجب أن تبقى كذلك حتى تستمر "العناية" بها، والمال ينبغي أن يظل في "مأمن" من الاستثمار في الخدمات الأساسية لصالح الشعب!!

أما خطاب المعارضة فلا يعدو كونه الوجه الآخر لنفس العملة: "نهب المال العام من قبل ثلة من الأشخاص"، و "الشوارع والكهرباء تؤكل"، و "نرفض التسيير الأحادي للدولة".. وكأن نهب المال العام لا يكون جريمة إلا إذا انحصر في مجموعة محدودة من الأفراد، والبنية التحتية والخدمية بلا فائدة ما دامت لا توفر عائدا ماديا نفعيا مباشرا على الجيوب!، و تسيير الدولة أحادي وسيئ ما لم يشركوا فيه حتى تكون الاموال المكدسة في خزينة الدولة تحت أعينهم وفي متناول أيديهم مثل النظام الحاكم..

ومن المفارقة أن كلا الخطابين قد ينسف طرح صاحبه وهو يحاول نسف خطاب خصمه! ومن الأمثلة على ذلك تركيز الموالاة على اتهام المعارضة بأنها "عاجزة" عن "فرض رحيل النظام"؛ كما وقع في بلدان عربية عصفت بها الصراعات المسلحة وباتت مسرحا للعنف والدمار.. غير مدركة أن هذا الطرح يشكل أكبر اعتراف للمعارضة بالنضج السياسي وسلمية النضال، والحرص على أمن واستقرار الوطن وسلامة شعبه..

وفي المقابل دأب قادة المعارضة على التقليل من أهمية تولي الرئيس الموريتاني الرئاسة الدورية للاتحاد الإفريقي؛ معتبرة أن تلك الرئاسة لم تجد من يتولاها في منطقة شمال إفريقيا التي تؤول إليها بحكم نظام تلك الدورية.. إذ أن مصر كانت في وضعية تجميد عضوية بسبب انقلاب 30 يونيو 2013؛ وليبيا منهارة ولا توجد فيها أي مؤسسات؛ وتونس منشغلة بمسارها الانتقالي بعد "ثورة الياسمين"، والمغرب خارج الاتحاد الإفريقي، والجزائر منشغلة بالوضع الصحي لرئيسها... وهو إقرار للرئيس ولد عبد العزيز بأنه في وضع دستوري سليم، والشعب الموريتاني لم يثر على نظامه، والبلد يحظى بالسلم والاستقرار.

 

وعلى صعيد الإعلام تحتدم المنافسة بين المواقع الإلكترونية، والقنوات التلفزيونية، والمحطات الإذاعية الخاصة؛ رغم استثناءات نادرة جدا؛ في ضحالة المادة المقدمة لقرائها ومشاهديها ومستمعيها "الكرام" لدرجة الحرص على شكرها وتثمين "أدائها المميز"!!

ولعل ازمة إضراب عمال شركة الصناعة والمعادن في كل من الزويرات ونواذيبو؛ وجولة الرئيس ولد عبد العزيز في مناطق شرق البلاد، شكلتا حلبة مثلى لبروز ذلك السباق المحموم نحو الرداءة...

ففيما تطالعنا مواقع كثيرة بمقالات تهاجم شخص الإداري المدير العام ولد أوداعه... ولد محمد لغم لشركة "سنيم"؛ دون أي ذكر لأسباب الإضراب ولا مطالب المضربين؛ تركز أخرى على نشر مواضيع تتهم العمال بأنهم مجرد "بيادق" في أيدي نقابات "مسيسة"؛ وتصف الإضراب بأنه "مؤامرة" لضرب الاقتصاد الوطني تقف وراءها قوى سياسية معارضة...

وبدورها انقسمت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، إلى فسطاطين لا يبث أولهما غير صور العمال وأهاليهم وتصريحات المناديب وقادة المركزيات النقابية؛ بينما يملأ الثاني أنظار وأسماع الرأي العام بصور قطار نقل خامات الحديد، وخدمات "خيرية سنيم"، وتصريحات "محللين" و "خبراء" يشككون في دوافع إضراب العمال، ويبررون قرارات إدارة الشركة، ويدافعون عن موقف الحكومة القائم على رفض أي حوار مع العمال قبل إنهاء إضرابهم!!

أما الجولة الرئاسية فحولت تلك المواقع والقنوات إلى منابر للتمجيد قبائل وتجاهل أخرى؛ أو حلبة للمواجهة الدعائية المفتوحة بين من يسبحون بحمد الوزير الأول الحالي، يحيى ولد حدمين؛ ومن أقسموا يمين الولاء لسلفه د. مولاي ولد محمد الاغظف، الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية.. وهما ينحدران من نفس ولاية الحوض الشرقي التي يزورها الرئيس في غياب الأول، ورفقة الثاني..

وضعية تجعل من الملح العمل على وضع إستراتيجية وطنية عاجلة وشاملة لتطهير الخطاب السياسي والأداء الإعلامي في البلد من أدران العفن الفكري، واجتثاث  غدد التضليل والمغالطة الإعلاميين؛ واستئصال أورام الغش والنفاق السياسي..

إن أول خطوة إلى العلاج هي الاعتراف بالعلة وتقبل الدواء مهما كان مرا..