أحمد ولد داداه يحاضر في منتدى الجزيرة التاسع

ثلاثاء, 2015-05-05 10:30

مدخل يمر اليوم أكثر من أربع سنوات على انطلاق الشرارة الأولى التي فجرت الربيع العربي في تونس، ثم في سوريا ومصر وليبيا واليمن، لتهب رياحها بأشكال مختلفة على معظم الأقطار العربية، فيكون تأثيرها بحجم الأوضاع السائدة في كل قطر، ودرجة الغليان الشعبي، ومدى الاستعداد لدى القوى الحية للتحرك.

• لقد انبهر العرب ومِن حولهم العالم بهذه الهبّة الشعبية غير المسبوقة، والتي طال انتظارها، بسبب طول ليل الاستبداد والتخلف، في أجزاء واسعة من فضاء الوطن العربي الكبير، الذي هو مهد الحضارات ومهبط الرسالات، مع ما حباه الله به من ثروات هائلة، في مقدمتها النفط؛ كما يتحكم موقعه الاستراتيجي في الاتصالات بين القارات القديمة، برا وبحرا وجوا.

• وحيث حظيت دول منه، كمصر وتونس بأنظمة متنورة في القرن التاسع عشر، عندما قاد حكامها إصلاحات تحديثية، جعلتها في مصاف دول أصبحت اليوم في مقدمة العالم الصناعي، كاليابان والصين والهند وتركيا واليونان، ومعظم دول أوروبا الشرقية، وأمريكا الجنوبية، وذلك قبل أن يستقل الكثير من دول آسيا وإفريقيا.

• في مطلع القرن العشرين شهد الوطن العربي حركات تنويرية، أسست عصر النهضة. ومع خروج الاحتلال، وانتهاء الاستعمار أقيمت حكومات وطنية، أنجزت بعض البرامج المهمة، قفزت بالتعليم خطوات كبيرة، فانتشرت الجامعات والمعاهد، وازدهرت الثقافة، وأقيمت بنية تحتية، من موانئ بحرية وجوية وطرق برية وسكك حديدية وسدود ومنشآت خدَمية على رأسها الطب، وتأسست صناعات متنوعة في مجالات عدة منها على الخصوص الزراعة، التي تجاوز إنتاجها في بعض البلدان حد الاكتفاء الذاتي.

لكن الوطن العربي لم يعرف في النهاية –على تفاوت في ذلك بين بلدانه- الازدهار المنشود رغم تعدد وتنوع ثرواته، وذلك لأسباب منها طبيعة اقتصاداتها التي كانت في أساسها اقتصادات ريعية، بنيت في أغلب الأحوال على عوائد النفط والغاز، والاقتصاد الريعي له خصوصياته التي لا تسمح له بالتنوع، والتمدد الأفقي، كما تركز الثروة في قطاع معين، وتجعل التنمية رهينة لتقلبات السوق. ومنها اتسام هذه الاقتصادات بمستوى رفيع من نفقات التسلح التي أملتها طبيعة المنطقة والنزاعات الاستيراتيجية والاقليمية في الشرق الأوسط فضلا عن انعكاسات الحرب الباردة التي تأثرت بها كافة الدول العربية بشكل أو بآخر.

• بعد هذه الانطلاقة المشجعة ابتلي الوطن العربي مذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، باغتصاب فلسطين وإقامة إسرائيل، التي كانت فعلا حربة الاستعمار والامبريالية، ومع أنها أصبحت خطرا على بلدانه، • فلم يكن ذلك كافيا لتكون السبب الأوحد للانتكاسات التي حدثت في الأقطار العربية الرائدة، وضياع الفرص الكبيرة التي أتيحت خلال العقود التي تلت، إذ أن العوائق الحقيقية بدون شك هي الأنظمة القائمة، التي انفردت في العالم بالسلبية الكاملة، فشهدنا دكتاتوريات عسكرية في القارات كافة، تركت إنجازات ضخمة لشعوبها . أما في وطننا العربي فقد شكلت أنظمته العسكرية العقبة الكأداء في وجه التقدم والتنمية، بسبب طبيعتها الاستبدادية، ونهجها الدكتاتوري، وفسادها المتأصل وتسلطها؛ فلا هي حررت فلسطين، أو حتى حافظت على أراضيها من الاحتلال والقضم الصهيوني، أو أنجزت تنمية تقضي على الفقر والجهل والمرض، أو بنية تحتية وخدماتية ذات بال، أو تركت الساحة لغيرها، فحرمت الأجيال المتعاقبة من دخول عصر التقدم، والعيش بكرامة.

• وبقدر ما فاجأت الهبّة الشعبية الحكام والأنظمة المستبدة، بقدر ما وحّدت ردود فعلهم، التي كانت شرسة، للدفاع عن أنظمتهم، كما تعودوا خلال الستين سنة الماضية، غير أن ذلك لم ينجح هذه المرة في تفادي سقوط أربعة منهم في تونس ومصر وليبيا واليمن، بينما أوصل الخامس في سوريا الأمور إلى حرب طائفية تتجه إلى أن تكون أهلية، نتيجة استعماله قوة الجيش لسحق المظاهرات السلمية. والقاسم المشترك بين أربع من هذه الدول الخمس (مصر وسوريا وليبيا واليمن) هو التوريث الذي كان إما طبق وإما قيد التطبيق في هذه الجمهوريات، فكانت الهبة الشعبية ضد الاستبداد فيها أكثر شراسة وقوة من أي مكان آخر.

هذا في وقت نجح بعض الأنظمة العربية في إدخال حد أدنى من الإصلاحات التي لبت بعض مطالب الشعب، فهدّأت الجو مرحليا. • غير أن ما شكَل صدمة مؤلمة، كان حجم الهوة القائمة بين تطلعات القوى الثورية الشعبية المنتصرة، والواقع، سواء من حيث قدرات الثوار على الاستيعاب والقيادة، أو من حيث الوعيُ الجماهيريُّ، وقوةُ الأحزاب والتنظيمات السياسية والاجتماعية، ذاتُ الدور الأول في قيادة عملية الانتقال إلى نظم ديمقراطية.

** 1. لقد تمكن الشعب التونسي بالرغم من الاضطرابات التي استمرت أكثر من ثلاث سنوات - بعد سقوط الديكتاتورية - من الوصول إلى إقامة نظام تعددي عبر انتخابات شفافة، رضي عنها الجميع، وذلك عائد إلى أسباب موضوعية، على رأسها درجة الوعي لدى الجماهير، نتيجة انتشار التعليم والمستوى الراقي الذي وصل إليه، ووجود طبقة عمالية منظمة ومتمرسة، ومجتمع مدني نشط، وحركة نسائية فعالة، ومن ثم طبقة وسطى مؤثرة، وجيش جمهوري محترف منبثق من وسط شعبي، خلافا لبقية أقطار الربيع، مما سيكون له الأثر الحاسم في مُجريات الأمور مدا وجزرا. فساعد ذلك التونسيين على درء المخاطر التي واجهت المرحلة لانتقالية، مما فرض واقعا تماشت معه الحكومات، التي تمثل أحزابا سياسية متآلفة، برهنت على درجة عالية من النضج والحكمة.

2. أما في مصر - رغم الشجاعة التي قاد بها الثوار الشباب الجماهير الشعبية، وحققوا بها انتصارها – فقد اصطدمت الثورة بعقبات بُنيوية سياسية واجتماعية، موروثة عن عقود من القمع والاستبداد، أدت إلى ضعف بيّنٍ في التنظيمات السياسية، وفي المجتمع المدني، والتشكيلات الشعبية، مما سهل عملية التفاف النظام القديم والدولة العميقة بقيادة الجيش على الثورة ليطيح بنظامها المنتخب.

3. وفي ليبيا التي تم إسقاط النظام فيها عبر تحالف قُوًّى ثورية جهوية ومناطقية وإسلامية، مع حلف شمالي الأطلسي، كانت الخسائر البشرية والمادية أكثر فداحة؛ وعلى الفور، تبين جليا حجم آثار الفراغ السياسي والخواء الثقافي الذي عاشه البلد خلال الأربعين سنة من الحكم الفردي، إذ لم يعد به نظام تربوي أو إداري أو اقتصادي، يُشكل مرجعية للسلطة أو المجتمع، ناهيك عن انعدام تنظيمات سياسية غير السرية منها، أو هيئات مجتمع مدني، حيث لا يوجد إلا القبيلة كحاضن لجماهير الشعب الليبي، مع أنها أُخرجت عن دائرتها الطبيعية، بجعلها أداة لتحقيق "الثورة الشعبية الجماهيرية". ولم يتمكن المنتصرون من إقامة حكم انتقالي، يضمن الأمن والاستقرار ويؤسس لنظام ديمقراطي، كما في الجارة الغربية، مما جعل البلد يتجه إلى التشرذم والاقتتال، في ظل أطماع دول إقليمية ودولية، تخاف من استخدام الأرض الليبية الواسعة منطلقا للإرهاب والهجرة غير الشرعية، بينما تُسيل ثروات البلد النفطية لُعاب الأخرى.

4. وفي اليمن السعيد، كانت القصة أمرَّ، عندما تصور الشباب الثائر أن النظام قد انتهى، وأقيمت مؤسسات ديمقراطية توافقية، بينما الواقع أن رأس النظام كان يحيك أمَّ المؤامرات، بتسليم اليمن إلى مجموعة مذهبية تمثل أقلية، ألغت كل ما نسجه السياسيون والدول المجاورة والأمم المتحدة طيلة ثلاث سنوات، وألغت الدولة المدنية، لتُحل محلها مليشيات طائفية، وتُوصل اليمن إلى حافة الحرب الأهلية، وهو الذي يبلغ فيه عدد قطع السلاح ستين مليونا؛ فتكتشف الدول المجاورة أن لا خيار لها إلا التدخل العسكري للحفاظ على اليمن وعلى أمنها هي وأمن الإقليم.

5. أما في سوريا فالمأساة بحجم أهمية هذا البلد الأساسي في المنظومة العربية، تاريخا وأرضا وموارد بشرية واقتصادية وموقعا استراتيجيا ودورا سياسيا، حيث تكالبت على ثورته جهتان، كأنهما متفقتان على تدميره وإلغاء دوره: النظام وحلفاؤه، وفي المقابل: دول عربية وغربية. إذ استنجد النظام بمليشيات مذهبية من بعض الدول العربية والدول الآسيوية المسلمة، بلغت أكثر من سبعين تنظيما مسلحا، مع دعم إيران والحكومة العراقية، بينما تقاعس دور الدول العربية القليلة التي تعاطفت مع الشعب وثواره عن الاستمرار في ما قدمته من دعم لم يصل – على أية حال - إلى درجة تمكّن من معادلة كفة التوازن بين قوة النظام وحلفائه من جهة، وقوة الثوار من الجهة الأخرى. وكانت الدول الغربية أكثر دهاء وازدواجية في موقفها من هذه الثورة، إذ لم تقدم من الدعم إلا ما يُنهك الثوار ويطيل أمد الحرب. فكانت النتيجة ما نشهده اليوم من انتكاسات لمكاسب الثوار وتقوقعٍ على الذات، وميلاد جبهات التطرف.

خاتمة

إذا كان وهج الربيع العربي قد خبا في بعض الجهات، للأسباب التي عرضناها في السطور الماضية، إلا أنه ما يزال حيا في وجدان القوى الحية في قلب هذا الوطن الكبير وأطرافه، وحتى لدى جيرانه المباشرين في إفريقيا وأوروبا .

نعم، لقد نجحت الأنظمة المستبدة جزئيا في التقاط أنفاسها، حيث أجهز بعضها على الثورة والثوار، ويستعد الباقون، منفردين، ومتضامنين، بدعم قوى الظلام وأمواله، للثأر، عبر إشعال الحروب الأهلية والطائفية، واستعداء العالم للإسلام وخاصة منه السني، في عملية سباق مع الزمن لاستعادة زمام المبادرة والعودة بالتاريخ ستين سنة إلى الوراء.

إلا أن الواقع يجعل مصير هذا الحلم الفشل، لأن الشعوب قد بلغت درجة عالية من الوعي، وهي مصممة على أخذ زمام الأمور بيدها، لتقرر مصيرها، بعد أن كسرت حاجز الخوف، جاعلة من الصمود الأسطوري لشعب فلسطين أمام الاعتداءات العسكرية الهمجية الإسرائيلية على غزة، والاغتيال والقتل والقمع والاعتقال في الضفة والقدس، المثالَ الذي تقتدي به. إن المطالب التي رفعتها جماهير الربيع العربي ما تزال هي مطالب الشعوب العربية القابعة تحت دكتاتورية الأنظمة العسكرية، التي لا تعرف إلا نهجا واحدا مَردتْ عليه، هو الاستبداد والفساد وتبديد خيرات شعوبها. إن الشعب العربي متجه لا محالة نحو الأمام، وإقامة نُظم حديثة عادلة وديمقراطية، يتم فيها التداول السلمي على السلطة عبر الاقتراع والشفافية، كبقية سكان المعمورة، ولا عبرة بمقاومة قوى الظلام التي تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ وفي التاريخ القريب والبعيد أمثلة ترشد إلى أن السفينة سترسو في بـَر الأمان، كما رست سفن الثورات الفرنسية والروسية والصينية، بعد عقود من الصراعات والاضطرابات الدموية والخسائر، حيث علينا أن لا ننسى أن مشكلتنا في الوطن العربي أننا لم نحقق بعد الاستقلال، ومغادرة قوى الاحتلال مرحلة انتقال، نؤسس فيها لأنظمة منبثقة عن الشعب وتخضع لمحاسبته؛ وهو ما ستؤول إليه بدون شك الأمور بعد اجتياز مرحلة الغليان التي نعيشها، رغم مرارتها.