بلاد المليون شاعر: أسطورة الواقع ..وواقع الأسطورة/ إدي ولد آدب

جمعة, 2015-06-05 20:34

استمرارا لتداعياتِ أسْماءِ مُوريتانيا الكثيرةِ المُتَغَيرَة،وتَعَدُّدِ الخَلْفياتِ الكامِنَةِ وراءَ ذلك، حَسَبَ ما توَقَّفْنا أمَامَه، في الحَلقَةِ الماضية،واعْتبارًا للْمَقولَةِ المَأثُورَةِ:

"كلُّ شَيْئٍ له حَظًّ من اسْمِه"،فإنَّني أعْتقدُ أنَّ تسْميةَ هذه الدوْلة "بلادَ المليونِ شاعِرٍ"، يَسْتَحقُّ– رُبَّمَا أكْثَرَ من غيْره- وقْفَةً خاصةً، لاسْتِجْلاءِ مَالَهُ ومَا عَليْهِ.

فصِفَةُ الملْيُونِيةِ مُبَالَغَةٌ قديمةٌ مُتَجَدِّدَةٌ في الإعْلامِ العَرَبي الحَديثِ والأحْدَثِ،حيْثُ وصفَ العراق بأنَّه "بَلدُ المليونِ نَخْلةٍ"، والجَزائر"بلَدُ المليونِ شَهيدٍ"، ثُمَّ وُصِفَتْ موريتانيا بأنَّها"بَلَدُ المليونِ شَاعِرٍ"، واليوْمَ تتنافسُ مُظاهَرَاتُ الثوراتِ العربيةِ بالمليونيات،وكلُّ هذه الإطْلاقاتِ الإعلاميةِ مُبالغاتٌ مَجَازيةٌ مُؤَسْطَرَةٌ، بِدُونِ شَكِّ" إلاَّ أنَّ الأسْطورَةَ لاَ تَنْبَتُ مِنْ فَرَاغٍ، فلاَ بُدَّ لَها منْ وَاقِعٍ قابِلٍ لِلْأَسْطَرَة، وهذا مَا تُمَثِّلُه العَلاقَةُ الحَمِيمَةُ بيْنَ المُوريتانِي والشِّعْر، الَّتِي جَعَلَتْ بعْثَةَ مِجَلَّةِ " الْعَرَبي" الكويتية 1967م تُطْلِقُ هذه التَّسْمِيةَ عَبْرَ تقريرها المُعَنْوَنِ:بـ "انواكشوط:أحْدَثُ عاصِمَةٍ ثقافية، فِي أقْصَى مَنْطِقَةٍ منْ وَطَنِنَا العَرَبي"، فَعِنْدَمَا زارَتْ مُوريتانيا،انْبَهَرَتْ بانْتِشارِ الثقافةِ الشِّعْريةِ بيْنَ المُواطنينَ الموريتانيينَ إنْتاجاً، أوْ رِوَايَةً، أواسْتِشْهَادًا،أوْتَمَثُّلاً، فسَألُوا عنْ عدَدِ سُكَّانِ الدَّوْلَة، فَقِيلَ لهمْ:

مليون نَسْمَة، فقالوا:

إذنْ أنتمْ مليونُ شاعِرٍ، لأنَّ كلَّ السُّكَّانِ يَتَعَاطَوْنَ الشِّعْرَ بطرِيقَةٍ أوْ بِأخْرَى.

ومِمَّا يَدْعَمُ هَذا الأساسَ الواقِعِي لأسْطَرَةِ االعلاقةِ بيْنَ مُوريتانيا والشِعْر،أنَّ الانْبِهَارَ الذي حَدَثَ لِمَجَلَّةِ "العربي" قدْ حَدَثَ قبْلَها حَتَّى لِلْمُسْتَعْمِر الفَرَنْسِي،حِينَ دَخَلَهَا،وهو يَتَصَوَّرُهَا بِيئةً مُناسِبَةً لاخْتِراقِ هُوُيتِها الثقافيةِ،كبَقِيةِ مُسْتَعْمَراتِه الإفْريقيةِ، التي لمْ يَجِدْ صُعُوبَةً في الهَيْمَنَةِ عليْها وفرْنَسَتَها، لا سِيمَا أنَّ موريتانيا"شنْقيط" كانَتْ –يَوْمَئِذٍ- مُجَرَّدَ إقْلِيمٍ، بَدَوِيٍّ، مُتَسَيِّبٍ من أيِّ سُلْطَةٍ مَرْكزية، والبَدَاوَةُ رَدِيفَةٌ للجَهْلِ، حَسَبَ نظرية ابْنِ خُلْدون، وغيْره منْ عُلَمَاءِ الاجْتِماعِ والإنْترْبُولوجيا،إلاَّ أنَّ هؤلاءِ المُسْتَعْمِرينَ تَفَاجَأوا –خلالَ تَقْريرٍ لهمْ سنة1937م-بأنَّه" لا يُوجَدُ مُجْتمَعٌ بَدَوِيٌّ بلَغَ مَبْلَغَ البِيضَانِ، وهمْ المُوريتانيون، في العِلْمِ بالعَقيدة، والتاريخ، والأدَب، والفقْه، وعلوم العربية، إنَّهمْ يَتَحَدَّثُونَ العَرَبيةَ الفُصْحَى،بِسُهُولَةِ ويُسْرٍ، أفْضَلَ مِنْ تونسَ والقاهرة، ولا يَنْدُرُ أنْ تَجِدَ بيْنهمْ رَاعِي إبِلٍ- منْ أبْسَطِ الرُّعَاةِ-يَتَغَنَّى بالشَّعْرِ الجاهلي".

والحَقِيقةُ أنَّ مُبَرِّراتِ أسْطَرَةِ هذه العَلاقة بيْنَ الموريتانيين والشِّعْر ما تزالُ ساريةَ المَفْعُول،حيثُ يُزَكِّيها تفَاعُلُهمْ الخَلاَّقُ، والمُنْقَطِعُ النَّظِيرْ، مَعَ شُعَرائِهمْ، حتَّى فِي بَرامِجِ المُسابَقاتِ الشِّعْريةِ الدوْليةِ والمَحَلِّيةِ، التي لا تَسْتَطِيعُ البُلْدانُ العَرَبيةُ الغَنِيةُ، ولا الكَبِيرةُ عَدَدًا،أنْ تُجاريهمْ في التَّصْويتِ بسَخَاءٍ علَى الشُّعَرَاءِ المُتَسَابقينَ،خِلالها،حتَّى لَتَرَى العَجُوزَ الذي لا يَعْرِفُ كيْفِيةَ التَّصْويتِ،يطلبُ ممَّنْ يَعْرِفُ ذلكَ أنْ يُصَوِّتَ بالنِّيابَةِ عنْهُ منْ هاتِفِه، وحَتَّى الأطْفالُ الصِّغارُ- في ضَواحِي المُدُنِ- كانُوا يُخَطِّطُونَ ليْلاً -فيما بينهم- للتَّسَلُّلِ صباحاً إلى المَدِينَةِ لمُتابَعَةِ حَلقَاتِ بَرْنامِج "أمِير الشُّعَراء"،في مَواقِيتِها.

ولكنْ هذا كلُّه وكثيرٌ آخر غيرُه،لايَكْفِي في هذا السياق،إذْ تَبْقَي هُناكَ عَوامِلُ أخْرى،لا تدْعَمُ مَشْرُوعيةَ أسْطورة "المليون شاعر"، حيثُ لا يَتَنَاسَبُ حَجْمُ الإشْعَاعِ الخارجي للشِّعْرِ المُوريتاني،وحَصِيلتُه النِّهائيةُ مَعَ دَوِيِّ هذا اللَّقَبِ.

ومِنْ هُنَا تكُونُ أسْطورة "بلاد المليون شاعر"، هي أكْبَرُ وَهْمٍ يُعْمِينَا في الداخِلِ عنْ إدْرَاكِ حَقِيقتنا الإبْداعيةَ،وأخْطَرُ مُشَوِّشٍ علَى أفُقِ انْتِظارِ المُتَلَقِّي العَرَبِي لِشِعْرِنَا،حيْثُ يَسْتَقْبِلُه وقدْ هَيَّأَتْهُ المَقُولَةُ الرَّائِجَةُ والمُتَرَسِّخَةُ لِشِعْرٍ مُؤَسْطَرٍ كّمًّا وكيْفاً، فإذا صُدِمَ بِقِلَّةِ المَنْشُورِ منَ المُنْجَزِ الشِّعْرِي كَمِّياً، وتَوَاضُعِ الكَثِيرِ مِنْهُ كيْفِيًّا، كانَ رَدُّ فِعْلِهِ مُحْبَطًا ومُحْبِطًا.

ومنْ هُنا أقْتَرِحُ أنْ تكونَ عَلاقتُنَا بهذه الأسْطورَةِ –وغيْرها-عَلاقَةَ بِنَاءٍ وتَأسِيسٍ فِعْلِيٍّ، وليْسَتْ مُجَرَّدَ عَلاقةِ اسْتِعَارَةٍ وانْتِحالٍ، حسَبَ مَا أشَرْتُ إليْه بِقَوْلِي فِي قصيدةِ" نشيد الشاعر المُهاجر":

تأبَّطتُ منْ أرواح "مليون شاعر"أساطيرَ .. أبْنيها .. ولا أسْتعيرُها أجلْ، بِنَاءُ هذه الأسْطورة،وتجْسيدُها واقعاً، لنْ يُحَقِّقَهُ الشُّعَرَاءُ، بِمعْزلٍ عنْ خُطَّةٍ رَسْمِيةٍ ،تَضَعُها الدوْلةُ، وتُضَحِّي بالغالِي والنفِيسِ منْ أجْلِ إنْجازِها،حتى لاتطْغَى أسْطورَةُ الواقِع، على واقعِ الأسْطورَة،متَى ذلك؟ الله أعلم.