الحرية الزرقاء.../عبد الله معلوم

سبت, 2015-09-12 08:50

المارون على أديم هذا الفضاء يؤسسون لإنسان موريتاني جديد، يتجاوز الحدود الضيقة لقريته الطينية، ليلتحم وإلى الأبد بإنسان القرية الكونية، ويعيش في عناق حميم مع "الحرية الزرقاء"، ويحقق بذلك ما عجز عنه في واقعه.

 

فلكل منا خيباته وطموحاته وآماله، ولكل ركن من وطننا المترامي الأطراف قصته الحزينة والجميلة في آن.

 

وعندما أقوم خلسة بنقل انطباعاتي ومشاعري عن محلة أنتمي إليها، إلى هذا الفضاء باختلافه وتشابهه وتفاوته وتساويه، وانقساماته على نفسه، بهفوات مراهقيه، ونزغ ثواره، وصمت حكمائه، وتغريد صافاته وتفاصيل حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... وأنا صادق في ما أنقل، يجب أن لا أنتظر من الآخر السبراني أن يقاسمني سذاجتي الالكترونية، لحد اعتمادها مرجعا، ولا أن يستقبلها كحصة تعليم ابتدائي، في مادة التاريخ أو الجغرافيا أو دراسة الوسط.

 

فنحن في صداقاتنا الافتراضية، نقيم مجتمعا آخر شبيها بمجتمعاتنا الواقعية ويتجاوزها، ونفضح سرائرنا عن قصد، قبل أن تبلى، لنتشكل من جديد، كمنتمين لعالم "مارك" الأزرق، عالم البوح والسفور والغواية، عالم صنعته أفكار وأنامل مراهق من العالم الأول الصناعي بامتياز.

 

والصداقة الزرقاء، ليست انضماما لمجموعة، أو صفحة خاصة، لتتلقى الجديد فيهما بشروطهما لا شروطك، وهما أي المجموعة والصفحة، قدر "مارك" أن يكون لهما صفة تجارية أو سياسية أو انتمائية، وإن عجز السيد "مارك "، حتى  الآن، أن أمارس حريتي الزرقاء في الانضمام إلى المجموعات في عالمه، بفعل إتاحة إمكانية إضافتي لأي مجموعة دون إرادة مني، منحني حرية تامة في الخروج منها بإرادتي.

 

وأما الحساب الذي تتم الصداقة من خلاله، فلا يشترط انسجام الصديقين ولا تنافرهما، وإنما أتاح "مارك " إمكانيات متعددة للرأي فيما تعرضه التدوينة من أفكار أو صورة أو صوت أو فيديو، فالتعليق لا يعني إعجابا والإعجاب ليس تعليقا بالضرورة، والمشاركة، رغم ما تحيل إليه الكلمة من معنى، لا يتوقف عنده بالضرورة فعل المشاركة، فقد أشارك لأنسف بكلماتي المصاحبة للمشاركة، التدوينة نفسها.

 

صداقتنا فرصة لأكتشفك، لا لأتبناك وتقودني، وأحسك لا لأن تحتويني وتختزلني فيك، وأفهمك لا لأن أتماهى معك أو تنوب عني، فلا نيابة في "الفيسبوك"، كما أنه لا قيادة فيه.

 

قد يدون أحدنا علي حسابه الخاص، بكلمات المنشور الحزبي، أو الاجتماع القبلي أو الصرخة الطبقية أو اللمة الأسرية، ليفاجئ أصدقائه ومتابعيه، بمكنونه وانتمائه إلى دوائر لا يهتمون بها أصلا، فيمرر رسالة من خلالهم، غير معنيين بها، ويراها هدفا للتدوينة ويرونها تغريدا خارج سربها.

 

يرصد الواحد منا آلاف الأصدقاء والمتابعين والمعجبين لحسابه في "الفيسبوك"، ويضع سياسة محكمة لتنمية هذا الرصيد، تعويضا عن الرصيد في الحساب البنكي أو التاريخي أو الاجتماعي أو السياسي.

 

إن الواقع الصعب والأوضاع المزرية التي نعيشها في دول العالم الثالث، والدول العربية والإسلامية تحديدا، جعلتنا حالمين لدرجة الطوباوية، فالظلم والغبن والحيف والتخلف والعزلة داخل أسوار الدولة القطرية، ونمو التطرف وفلسفة الكراهية التي ننتج داخل هذه الدولة، كل ذلك مجتمعا شكل من عالم مواقع التواصل الاجتماعي، ملاذا للحالمين ببلاد على مقاس آلامهم وحرمانهم، يصنعونها ولو افتراضيا، يمارسون فيها هواياتهم ودكتاتورياتهم ويهذون بأمجاد ويخبرون عن أعلام، غيبها تأخرهم عن ركب حضارة ومسار أمم.

 

الهوة تتسع بين المعتقد والواقع كل يوم، فالقرية الكونية، لا دين لها، ونحن نقدم النسخة الأقل رواجا والأكثر تشويشا لدين أراد الله له، أن يكون للناس كافة، وأن ينزله "عربيا مبينا"، وأهل الضاد ،غير جذابين ولا منتميين في زماننا، إلا لحرب الفرق والنحل، فلماذا لا ننتج إسلاما يفهم العصر ويسايره دون أن يحيد عن مداره الإلهي، فهذا الخواء الكوني لا يطاق، وما له غير الإسلام دينا.

 

المحلة والدولة القطرية وكل ما هو إقليمي يتقلص، وكل ما هو كوني يتمدد، فلنرسم أحلامنا السبرانية، بمعايير كونية، من غير أن ننسى المكان الذي آوانا لنرسم من أرضه، أحلامنا الكونية تلك.