حوار مع الحوار..

-A A +A
أربعاء, 2015-09-16 08:02
محمد فال ولد عبد اللطيف ـ كاتب، وإداري سابق

وردت مادة “الحوار” في القرآن العظيم في سورتين اثنتين، أولاهما سورة الكهف، في شأن صاحب الجنّتين من أعناب محفوفتين بنخل و بينهما زرع وخلالهما نهر، وكان لصاحبهما مال صامت كثير .. ولكنه مع ما أنعم الله به عليه كان كافرا لتلك النعم .. قد دخل جنته وهو ظالم لنفسه ..

 

قال .. ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة، ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منهما منقلبا.

 

حاوره صاحب له، لعله يرجع عن موقفه هذا ..

 

فما زاده ذلك إلا إصرارا و تعنتا و تصلبا في موقفه، فلم يتنازل عن شيء قل أو كثر، إلا أنه لما حل بجنته ما حل، ندم و لات حين مندم.

 

وقال يا ليتنى لم أشرك بربي أحدا ..

 

ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا.

 

هذا نموذج من الحوار الذى لم يثمر إلا دروسا تقرؤها الأجيال القادمة.

 

والسورة الثانية .. سورة المجادلة.

 

وهي المرأة التى جاءت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ،تشتكى إلى الله من زوجها حين ظاهر منها، فسمع الله محاورتها لرسوله، فأنزل في شأن الظهار ما أنزل، و قرر أنه منكر من القول وزور، وحدد ما يجب على مرتكبه.

 

هذا نموذج من الحوار المثمر، ترتّب عليه تشريع خالد، وخروج من ورطة كانت تعانى منها النساء.

 

ولقد كثر الكلام عن الحوار في العصر الحديث ..

 

وهو ما يدل على أن البشرية بدأت تركن إلى تحكيم العقل و المعقول، بعد العنف و المجهول.

 

فهذا حوار الحضارات، نادى به الشاعر الرئيس السنغالي سينغور، ومن بعده من المفكرين، ورآه أجدى وسيلة لقبول الآخر، وبث روح التسامح بين الشعوب.

 

و هذا حوار الديانات -يدعو إليه- القائمون على الديانات في غالب الملل، و إن كانت تقف أمامه عقبات عضوية، وأخرى ظرفية، بصعب – ولا يمكن- التغلب عليها.

 

وهذا الحوار السياسي ..

 

يدعى إليه بعد أن تفشل الحرب، وتسكت المدافع، فيجلس المتحاربون أمام مائدة الحوار، فيكون الأخذ والرد والتدافع والتنازل، ثم يبرم الصلح وتغمد السيوف وتضع الحرب أوزارها ويأمن الناس.

 

و لابد هنا من التذكير بأن مفهوم الحوار عريق في الحضارة العربية الإسلامية ..

 

وأن قول الشاعر

 

 

ولكن حكم السيف فيكم مسلط *** فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا

 

 

هو حالة شاذة لا يقاس عليها.

 

فهذا الشاعر زهير بن أبى سلمى، يقرر في بيت له كان يعجب عمر بن الخطاب، أن الحق يظهر بالنقاش ..

 

حيث يقول ..

 

 

فإن الحق مقطعه ثلاث *** يمين أو نفار أو جلاء

 

 

ولقد حاور حبر الأمة عبد الله بن عباس، فرقة الخوارج على علي بن أبى طالب، فأقنع منهم أربعة آلاف، فرجعوا عن نحلتهم، وعاودوا إلى صف الإسلام.

 

ومن تأمل الحصة المكية من القرآن العظيم، وجدها حافلة بالدعوة إلى الحوار، وتقديم البراهين، والتسجيل على الخصم، والتنازل له والتسليم له جدلا، ودعوته |إلى الحق بالحسنى، والإعراض عنه إذا جهل، وعدم اليأس منه أن يؤوب إلى الصواب، والصبر على جفائه.

 

أما في بلادنا هذه -أعزها الله-

 

فإن عادة الحوار فيها متجذرة ..

 

فهي من بقية الديمقراطية الأولى، التى ورثناها من أصولنا العربية و الإفريقية.

 

فلقد كان لكل أمير من أمرائنا جماعة من أهل الحل و العقد، يصدر عن رأيها، ويحاورها في مصلحة القبيلة و الإمارة والدين و المروءة.

 

كما أنه لكل قرية من قرى الجنوب شجرة وارفة الظل تسمى ”شجرة الحوار”، تبحث تحتها الأمور، وتسوى عندها المشاكل، وتحت ظلها تعقد السلم والحرب، يذعن الجميع لقرارات تلك الشجرة المباركة.

 

وأتذكر – أيها الكاتب – أنه في أوائل السبعينات من القرن الماضي، كان طلاب الثانويات -وكنت منهم- مولعين بالإضراب و الإضطراب، وكانت الحكومة اتجاههم تراوح بين القسوة واللين.

 

وكان عاقبة أمرها أن جنحت إلى اللين والحوار، فنجح ذلك الحوار ورجع التلاميذ إلى مقاعدهم سالمين، وحلت المشكلة على ما يرام، وقيل الحمد لله رب العالمين.

 

وللحوار أدبيات معروفة، واستراتيجيات مقررة، تسمى في العرف الدبلوماسي بفن التفاوض، وتتقاطع في كثير من الأحيان مع ما يسميه علماء الأصول بعلم المناظرة.

 

ومن فصول فن الحوار التقليدية، ما يسمى طلب الكبرى لنيل الصغرى.

 

ومنها تقسيم الأدوار داخل الطرف الواحد، يضطلع جزء منه بالقسوة، وجزء آخر باللين.

 

ومنها ما يسمى بالمزايدة، وهي تهويل الأمور، لإرغام الخصم على قبول ما يقدم له، وأكل ما يعلف به.

 

أما سياسيونا -نحن أهل هذا القطر- المفترض فيهم أن يكونوا من فرسان الحوار، والداعين إليه، لأنه من صلب ثقافتنا وحضارتنا، والحق أنهم يقولون بموجبه كلهم، ولكنه ما زال دون المستوى المطلوب.

 

وعلى الله قصد السبيل.