من القراءة الى الكتابة تحولات في وظيفة قارئ الرواية

-A A +A
خميس, 2014-05-29 17:05

تحضر الحكاية أو القصة في التنظير الروائي، خارج الاهتمام النقدي، نظرا لكونها غير معنية بتحقيق الهوية الأدبية للنص، ولأن الحكاية مهما كان موضوعها، فإنها لا تخلق شرعية النص الأدبي. وإلا، ما كان الأدب يطرح على مدى تاريخه أسئلة تلقيه، وسبل التواصل معه.

من هنا، حرصت التنظيرات السردية في التحليل الروائي على الاهتمام بالخطاب أكثر من القصة، انطلاقا من كون الذي ينتج هوية النص، هو طريقة سرد القصة، ودرجة اعتماد مبدأ التشخيص. ولهذا، انتعشت نظريات تحليل الخطاب بتقنيات تفكيك مظاهر القول الروائي، وتطوير الدرس السردي. وبقيت الحكاية أو القصة شيئا شبه خارج الوعي النقدي الذي انشغل بالبناء، ونظام ترتيب عناصر الحكاية. عكس ما كان عليه الأمر مع المناهج الأدبية، ذات الرؤية التاريخية والاجتماعية والتي أنتجت قارئا مجرد متلق لحكاية مبرمجة، برؤية واحدة، خاصة مع نظام السرد الذي هيمن على تدبيره ضمير الغائب. وهو وضع تعبيري كانت له علاقة بنظام المؤسسات الاجتماعية والسياسية ذات المرجعية الواحدة. وعندما عرفت الرواية تحولات على مستوى نظامها، وانفتحت على التعددية في السرد، انعكس ذلك على وضعية الحكاية التي غادرت وحدتها، وجاءت عبارة عن أجزاء وضعت القارئ في موقع مغاير، جعلته ينتقل من مجرد متلق إلى مشارك في إعادة إنجاز الحكاية، عبر تجميع شتاتها، وإعادة الوصال بين أجزائها، كما هو الأمر مع شكل السرد التجريبي. وهو وضع دفع القارئ إلى تبني موقع، ومن ثم إلى امتلاك رؤية خاصة به، باعتباره شريكا في إعادة بناء حكاية موجودة من قبل. ولعل طبيعة الكتابة في الشكلين معا (التاريخي/الاجتماعي والتجريبي) كانت وراء نوعية القارئ الذي تقترحه. غير أننا بتنا نقرأ تجارب روائية تأتي وفق نظام يتجاوز هذين الشكلين لحضور القارئ، وتنفتح على تركيب جديد، وغير مألوف، يجعل القارئ فاعلا وظيفيا في إنتاج الحكاية، وليس قراءتها فقط، أو البحث عن شكل إعادة بنائها. وهو أمر، غير مفكر فيه خارج الممارسة الروائية، على اعتبار أن الكتابة تؤسس لمظهر القراءة، وشكلها ينتج لنوعية القارئ. فالقارئ إمكانية نصية تتطور مع تطور شكل الكتابة. تضع وضعية هذه الروايات القارئ أمام تحد كبير، يخص طبيعة إدراكه لموقعه الجديد، ومن ثمة لوظيفته الجديدة. وإذا بقي الموقع خارج الإدراك والوعي، فإن النص يبقى أيضا خارج التلقي المنتج. رواية «كرة الثلج» ( 2013) للروائي المغربي «عبد الرحيم جيران» من النوع الذي ينتمي إلى هذا النظام في الكتابة الروائية التي تؤسس لشكل جديد لحضور القارئ. إنها رواية تحفز الفكر على التفكير، وترقى بالقراءة إلى الكتابة، وتقترح بمستوياتها السردية مجالا لإعادة صياغة أسئلة الكتابة الروائية مثل أسئلة الخيال والتخييل، والواقع والحقيقة، وعلاقة ذلك بقيمة المعرفة التي يتلقاها القارئ (نسبية، مطلقة، مشكوك فيها). تأتي «كرة الثلج» خارج تعاليم القراءة المتعاقد عليها في التجارب الروائية. ولهذا، فهي رواية لا تؤخذ بسهولة، كما قد تبدو صعبة للمتلقي العادي الباحث عن الحكاية، وأحيانا أخرى قد تطرح تركيبتها صعوبة تلقيها النقدي. رواية مثيرة لأسئلة القراءة من شكل الكتابة. فالحكاية التي ابتعد الاهتمام النقدي عنها منذ تم التراجع عن الرؤية التاريخية والاجتماعية للأدب، نجدها قد عادت إلى واجهة التفكير الروائي ليس باعتبارها موجودة بذاتها ولذاتها في الرواية، أو باعتبارها حالة محققة وما على القارئ إلى إعادة بنائها من جديد، أو ترميم شظاياها كما في التجريبي، إنما بدأت تطفو على التفكير النقدي باعتبارها موضوعا مفكرا فيه من قبل القارئ. والذي أنتج حالة التفكير في القصة بهذا الشكل هو طريقة بناء الرواية، وتركيبة السرد.  الحكاية توجد في موقع التكوَن. إنها حالة تتشكل. وتشكلها رهين بوعي قارئها بوضعه الجديد، وموقعه الروائي. إنه قارئ موجود باعتباره منجزا للحكاية وليس قارئا لها، مثلما نجد مع نموذج القارئ الرقمي. كرة الثلج ليست من نوع الروايات التي تبدو حكايتها واضحة، أو على الأقل ممكن الإلمام بها وبأحداثها، فتؤمن لنا قراءتها، كما أنها ليست من نوع الرواية التجريبية التي تجعلنا نعيد تركيب عناصر الحكاية المشتتة داخل النص، فيغمرنا نوع من الرضا أو الارتياح حين ننجح في إعادة ترميم الحكاية. كرة الثلج تأتي خارج هذين النموذجين لأن الحكاية غير مطروحة باعتبارها مجموعة من الأحداث، إنما هي حالة في موقع التكوَن حسب العلاقة الوظيفية بين ثلاثة أنواع من الساردين. تتجلى الحكاية من نظام ترتيب الرواية الذي يعتمد على شكلين أساسيين: أولا اعتماد مفهوم الدحرجة في السرد، وثانيا اعتماد مفهوم ضمير المخاطب «أنت» في بناء الحكاية. يتأسس عالم الرواية من دحرجتين . تنجز الدحرجة الأولى الأم ساردة لحكاية السيارة التي اشتراها ابنها «الصادق» فغيرت زمنه ووضعه، ومعها تغيرت نظرة الناس والمكان والقيم. ودحرجة ثانية ينجزها الابن «الصادق» سارد نفس أحداث الدحرجة الأولى، لكن برؤية مختلفة. رؤية تشكك في رؤية الأم وتتجاوزها بإنتاج تصورات جديدة، وجعل الأحداث وفق منظورات مختلفة. تنتصر الساردة – الأم لفعل الكلام أكثر من فعل الكتابة، تحكي عن كل حدث جاء في طريق كرة الثلج، ولهذا نلتقي بتقنيات التضمين وتداخل الحكي، والخروج من حكي إلى آخر، فيتخذ شكل حكيها الشكل الشفهي الذي يساير عملية التدحرج. أما السارد – الابن فإنه يحكي نفس الأحداث، لكن بطريقة مختلفة. فإذا جعلت الأم الأب/الزوج ميتا، فإن الابن/السارد جعله حيا، ومنحه حركية في الحدث. بين الدحرجتين/ الساردين يوجد سارد ثالث، يتميز بحضور مادي من جهة، وآخر احتمالي، حسب علاقته بزمن الدحرجة. وهو سارد تجلى عبر ضمير المخاطب «أنت». تنمو الرواية ككل من خلال التوجه إليك، أنت أيها المخاطب، القارئ، بدءا من العتبة النصية (ص 5)، إلى بداية السرد بضمير المخاطب: «ألتمس العذر منكم إن أنا قصصت عليكم تفاصيل لحظة شاردة من زمن سقط من الزمن..»(ص9)، فمحطات الدحرجة التي يتخلل زمنها ضمير المخاطب ليس باعتباره متلقيا لخطاب أو حكاية، إنما باعتباره شريكا في إنجاز الحكاية، أي في سردها. يشخص هذا الوضع وضعية السارد المحتمل، وهو أنت أيها القارئ، الذي عليه ليس فقط ترتيب الحكاية، كما وجدنا في النموذجين السرديين (الأم – الإبن)، إنما أن يكتب الحدث، ويصنع الحكاية، انطلاقا من موقعه في زمن الدحرجة. ما يعزز الحضور القوي لهذا السارد الثالث، القادم بقوة إلى النص، هو هذا التنافر والتناقض بين رؤية الأم ورؤية الابن لنفس الأحداث، وإخراج الرواية من اليقينية أولا، ثم النسبية ثانيا، ثم الدفع نحو التشكيك فيما يحكى في تاريخ الأفراد وتاريخ المجتمعات. يتسع نظام السرد الذي يعتمد على زمن الدحرجة، وتكبر مساحته، مع دخول النوع الثالث من السارد /القارئ غير المحدد، ولكنه سيعطي لهذه الرواية أبعادا جديدة ليس في قراءة ما حدث، إنما في كتابة أحداث أخرى، بدعم من فعل الدحرجة. نلاحظ في الرواية شبه غياب للشخصيات، لكونها تأتي موضوعا مسرودا، يتم تغييبها من طرف الشكليين السرديين (الأم/الابن)، ولهذا، يغيب صوتها/رؤيتها. يتوازى هذا الغياب، مع حضور فكرة التشيؤ في الرواية، وتحويل الإنسان وتاريخه وذاكرته إلى مجرد شيء. عنصر الغياب، أو فعل التغييب السردي يبقى حالة يمكن تجاوزها، حسب وعي القارئ بالموقع الجديد. يتبنى هذا الشكل في الكتابة الروائية فكرة الآخر، القارئ الذي لا تستقيم حكاية الأشخاص والذاكرة والمجتمع إلا بوجوده شريكا في الكتابة بشرط الوعي الذاتي بوظيفة الشراكة. ـ جيران (عبد الرحيم): كرة الثلج دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى 2013

 

د ـ زهور كرام