قديما فطن الفرنسيون إلى أن بعض أولادهم يذهبون من بيوت أهليهم إلى المدرسة وفي منتصف الطريق يُحَرِفُونَ مسارهم ويسلكون طريقا آخر مليئا بالدغل "buissons" وهو الشجر الكثيف المتقارب الذي يُتَواري فيه عادة ابتغاء الخَتَلِ والتًخَفِي.
فيقضون فيه نهارهم لاَهِينَ لاَعِبِينَ لا يرجعون إلى ذويهم إلا مع نهاية الدوام المدرسي مُدًعِينَ بأنهم كانوا بالمدرسة فيُجِيبُهُمْ وكلاؤهم بل كنتم في "مَدَارِسِ الدًغَلِ"!! لذلك أُطْلِقَ الفرنسيون على كل تهرب مدرسي و"تجْفِيفٍ" للفصول الدراسية نَعْتَ "مدرسة الدًغَلِ" Ecole buissonnière .
وتنتشر ببلادنا على نطاق واسع في ذروة أوقات الدراسة ظاهرة تواجد العديد من منتسبي المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية في الساحات ومحاذاة الحيطان المدرسية وعند الدكاكين ونقاط البيع القريبة من المدارس زُرَافَاتٍ ووِحْدَانًا كثيرٌ منهم يمارس الرياضات ومَنَاشِطَ اللهو المفضلة لديه.
ومنهم من هو مستغرق في تشغيل "مُهْلِكَاتِ الوَقْتِ" في هاتفه الذكي ومنهم آخرون غارقون في "لعبة العُيُونِ العِينِ" لاصطياد "المغامرات العاطفية"... فاستحق هذا النوع من التسيب المدرسي وصف "مدارس الدًغَلِ أو اللهو والسًيَبَانِ".
أما عن شيوع ظاهرة اللهو والسًيَبَانِ لدى طلاب الجامعات والتعليم العالي فحدث ولا حرج!! حيث يُقَدًرُ أن 30% من طلاب الجامعة لا يدخلون المدرجات والقاعات إلا لِمَاًما.
وإنما يُحَرِفُونَ مسارهم "فيُوَلُونَ" وجوههم شَطْرَ "ساحات الجدل السياسي والنقابي" أو "جامعات الشُقَقِ المَفْرُوشَةِ" المعهودة لَلَعِبِ الوَرَقِ واحتساء "شَايِ الضُحَي" والمشاهدة الجماعية المختلطة لآخر مخرجات السينما العالمية و"أشياء أخري"!!.
ويرجع العارفون بالشأن التربوي ظاهرة انتشار مدارس "الدَغَلِ" أو اللهو والسيبان إلى عدة عوامل منها مِثَالًا لا إِحْصَاءً عَدَدًا:-
أولا. الاكْتِظَاظٌ الفَاضِحٌ في الفصول الدراسية: تتميزُ الفصول الدراسية ببلادنا بالاكتظاظ الطلابي حيث يبلغ أحيانا عدد التلاميذ في الفصل الواحد 180 تلميذا قِيًامًا وقُعُودًا وعلى رُكَبِهِمْ!!! في فصل لا تتجاوز مساحته 35 م 2 بما يعني أن "معدل الكثافة الطلابية" يقارب 6 طلاب للمتر المربع الواحد!! وهو ما يُصَيِرُ الفصول أشبه "بالزنزانات الدراسية" الشيء الذي يدفع التلاميذ إلى الفرار من ضِيقِ تلك الزنزانات إلى سَعَةِ الساحات وشوارع الجوار المدرسي؛
ثانيا. العَجْزٌ الوَاضِحٌ في أعداد المعلمين: يعاني قطاع التعليم من نقص حاد في أعداد طواقم التدريس حيث من المتواتر أن بعض المعلمين يلجأون لمواجهة تصاعد شح المعلمين وكثرة التلاميذ واختلاف مستوياتهم الدراسية إلى إحدى حيلتين أولاهما تدريس ثلاثة مستويات دراسية في فصل واحد وفي آن واحد بحيث يكون الفصل مجهزا بثلاث سبورات مُثَبًتَةٍ على الجدران في ثلاثة اتجاهات مختلفة ويقدم المعلم الدروس للمستويات المختلفة مؤديا "رَقْصَةَ التًنَقلِ" بين السبورات الثلاثة!!!.
وثاني الحيلتين هي إدخال تلاميذ الفصول الثلاثة بداية الدوام للتأكد من حضور جميع التلاميذ وإعطاء الانطباع بأن الجميع بدأ اليوم الدراسي ثم يوزع الساعات الستة يوميا بين الفصول الثلاثة بمعدل ساعتين لكل فصل فيُسَرِحُ تلاميذ الفصلين الآخرين مدة أربع ساعات لا يجدون ملاذا من قضائها في مدارس الدًغَلِ واللًهْوِ والسًيَبَانِ!!؛
ثالثا. النَقْصٌ الصَارِخٌ في أعداد المراقبين وأعوان التعليم: تَرْزَحُ العديد إن لم اٌقل كل المؤسسات التعليمية تحت وطأة نقص صارخ في أعداد المراقبين وأعوان التعليم الذين تُنَاطُ بهم مهمة "الشُرْطَةِ المَدْرَسِيًةِ" ورقابة الفضاء الدراسي والتأكد من تواجد التلاميذ بالقاعات الدراسية والحفاظ على الأخلاق والسكينة والوقار داخل الحَرَمِ والجوار المدرسي؛
رابعا. الاسْتِقَالَةٌ الوَاسِعَةٌ للأهالي ووكلاء التلاميذ: تعتبر استقالة الأهالي وعدم متابعتهم للمشوار الدراسي لأبنائهم من أهم مُحَرِضَاتِ انتشار ظاهرة مدارس اللهو والسًيَبَانِ حيث يعتبر الكثير من الأهالي جهلا أو "غفلة" بأن واجبهم ينتهي عند تسجيل أبناءهم بالمدرسة!!.
كما يشاع على نطاق واسع أن بعض الأهالي يرسلون أبناءهم إلى المدرسة لا رغبة وطلبا للدراسة وإنما سعيا للراحة من حضانتهم ومراقبتهم بالمنزل ويتداول على نطاق أوسع أن من الأمهات من إذا عجزت عن الحصول على "حَاضِنَةِ صِبْيَانٍ" سجلت أبناءها بالمدرسة ولو قبل بلوغهم سن الدراسة!!؛
وبالمحصلة فإن ظاهرة "مدارس الدغل واللهو والسيبان" و"جامعات الشقق المفروشة" ببلادنا تمثل فتنة وخطرا تعليميا وأخلاقيا ومجتمعيا يتعين على السلطات العمومية تقديره حق قَدْرِهِ وضَرَرِهِ وخَطَرِهِ والدعوة إلى تفكير عاجل شامل حول الموضوع ابتغاء إعداد مقاربة فعالة تَسْتَأْصِلُ وتُطَهِرُ هذا الورم الاجتماعي غير الحميد وتُحَصِنُ من ارْتِكَاسِهِ.