الجمهورية الثانية (بين المعارضة المقاطعة والمعارضة المبادرة) / محمد يحيى سيدي المختار

-A A +A
ثلاثاء, 2014-06-17 13:06

لم تُشكل "المعارضة" يوما من الايام خطرا وجوديا مهما على أي من الأنظمة المتعاقبة على الحكم في بلادنا... لم تستطع هزيمة أي نظام انتخابيا، ولم تستطع اسقاطه ثوريا ولا حتى عسكريا... "الموالاة" هي وحدها التى اسقطت جميع الانظمة، اخلاقيا على الاقل!

 الى حين قيام المؤسسة العسكرية بترتيب عملية اسقاطها من الناحية الاجرائية... وللمفارقة فان الموالاة لم تستطع ايصال أي نظام سياسي لسدة الحكم في موريتانيا...  المولاة هي المعارضة الحقيقية!

يبدو بديهيا اليوم وبالنظر الى الخارطة السياسية ان التحدي الاكبر الذي تواحهه السلطة ليس هو الفوز بمأمورية ثانية، وذلك لأسباب عديدة لعل اقلها شأنا هو مقاطعة بعض القوي السياسية لهذه الاستحقاقات، وانما يتمثل في الانتباه الى الفخ الذي تروج له اوساط  في المعارضة المقاطعة للانتخابات، بهدوء لكن باحترافية، لتُردده بعض اوساط المولاة ببغاوية مثيرة للشفقة: من ان أي انخفاض في مستوي المشاركة، سيعتبر بالضرورة نصرا لخيار المعارضة المقاطعة!، وبالتالي فانه من الضروري ان تعمل الاغلبية الحاكمة على تأمين اكبر نسبة مشاركة في الانتخابات ولو عن طريق "المبادرات" والتظاهرات الغوغائية... مع العلم  أنه -وفي اكثر الديمقراطيات عراقة- حين تكون المنافسة ضعيفة؛ تقل بالضرورة نسبة المشاركة، فقليلون هم اولئك المناضلون الذين ينتظرون في طوابير طويلة للتصويت لمرشحهم الافضل، وهم موقنون بفوزه!

ثم ان أنصارالمعارضة في شقها "الكبير" -الشق الذي لم تُختبر شعبيته في الاستحقاقات الاخيرة- من المفترض انهم لم يسجلوا على اللائحة الانتخابية؛ استجابة للقرار التاريخي الأخير لهذه "المعارضة التاريخية" الداعي لعدم التسجيل على اللائحة بغية افشال الانتخابات التشريعية والبلدية الاخيرة، وهو قرار مازال حبره لم يجف بعد! وإن كان أصحاب "ذاكرة الجراد" قد نسو اوتناسو ذلك، فلابد انهم  يتذكرون الضجة التي حدثت أخيرا على اثر الأشاعة التى سرت بتسجيل زعيم المعارضة على اللائحة الانتخابية!

ان ما شهدته وتشهده الساحة السياسية الموالاية اليوم، من "مبادارات" افرغت فعل (بادر يبادر...) من مضمونه اللغوي والدلالي، وما يلاحظ من تقيأ صغار الكتبة من "انصار السلطة" بمُتَكلف المدح، وتجرأهم بفاحش النقد، ومحاولاتهم العودة  الى عقلية الابيض والاسود القاصرة، التى يصير معها أي رأي مختلف –ولوقليلا- عن الكتابات الممجوجة والآراء السطحية الدارجة؛ رأي معارض يجب التصدي له بكل صرامة وفُجر... هو في الحقيقة جولة جديدة من الصراع - سيكون لها ما بعدها في مستقبل النظام والدولة عموما- بين "انصار الرئيس" من اصحاب المبادرات المؤيدة لجميع الرؤساء، الداعمة لجميع المشاريع، والتى لا يُغير اصحابها في مضامين مبادراتهم  بتغير الرؤساء...من جهة وأنصار المشروع السياسي الذي تمثله السلطة الحالية متمثلا في العناوين والمشاريع الكبري من قبيل محاربة الفساد والمفسدين، ولانحياز للفقراء والمهمشين والمبعدين (المواطن الحقيقي)، بتخطيط الاحياء العشوائية، واستصلاح الاراضي الزراعية ومحاربة التقري العشوائي... بالإضافة لضبط الحالة المدنية، واعادة التوازن للسياسة الخارجية، واعادة الامن ولامان بالحرب على الارهاب والقوي والظلامية...

لقد كان هناك دائما، من يتحدد موقفه من أي سلطة – ان جاز التعبير- تبعا لصفاتها (مشروعها السياسي)،  ينحاز اليها باعتبارها خادمة لمصالح الشعب والامة، يدافع عنها ويضحي من اجلها بكل صدق واخلاص... حين يرى مشروعها السياسي صالحا وبناء؛ ويبتعد عنها ويدافعها بكل قوة وحزم؛ حين يرى فيها عكس ذلك،  وهناك من هو داعم لكل سلطة، يحبها لذاتها – ان جاز التعبير أيضا-  أي من حيث هي سلطة؛ هو في الحقيقة داعم أو عابد للمنصب... انه تكيف من نوع ما؛ لأنصار الحق الإلهي في السلطة، فالرئيس عندهم هو المنعم الذي بيديه ملكوت كل شيء، هو النافع الضار... أو على الاقل هو ظل لذلك المنعم، او تجل له سبحانه وتعالى عما يتوهمون...

لقد كان الرئيس محمد ولد عبد العزيز شديد الحذر حد الحساسية؛ من كل ما يمت بصلة لتلك القوي الانتهازية -بالطبيعة-  التى تنظر الى كل سلطة باعتبارها عائلا طبيعيا، تستوطنه بخلاياها و اقسامها ومبادراتها... الى ان تسقطه من علياء الوهم و النفاق... لقد تعامل معها تعامل الخبير المجرب، بوضع الحصون المحكمة حول جسم السلطة منعا لدخولها في احيان كثيرة أوالسماح لبعضها بالدخول عند الضرورة! والتموقع لكن هامشيا حيث لا يمكنها التأثير...

واليوم وبعد أن اندحرت أغلب تلك القوي الى عائلها الثانوي "المعارضة المقاطعة" حيث لا يمكنها البقاء طويلا... آن أوان الإلتفات الى الداخل لتطهير جسم السلطة من "المعارضة المبادرة" الطفيليات الانتهازية الخبيرة الكامنة، ومن السلالات الجديدة متطورة المناعة –نتاج الفهم السطحي والتطبيق الخاطيء لمفهوم تجديد  الطبقة السياسية- حتى لا تصبح مُعندة، وقبل ان يستفحل الضرر.

يجب الاعتراف أن المعارضة اليوم -وبالنظر الى إمكانيتاها الانتخابية المتواضعة، وفشلها الذريع في تثوير الشارع- في أحسن أحوال ممكنها (السياسة)، بعد أن منح الحوار الأخير قبلة الحياة لشقها المقاطع! وسوّقت المقاطعة لشقها المبادر، انها ولأول مرة في تاريخها تبدو بهذا القدر من التماسك، انها تبدو كمن يخطط ويحشد لمعركته الاخيرة معركة الحياة في السلطة أو الموت خارجها...

يقال ان شارل مارتل (المطرقة)، الملك الذي أوقف الزحف الاسلامي تجاه قلب اوروبا في معركة "بلاط الشهداء"... تجنب مواجهة جيش المسلمين في بداية الامر، تاركا لهم المجال مفتوحا للتوغل بعيدا عن خطوط الامداد، وحتى تكثُر غنائم الذهب والفضة في ايديهم، ويكثُر اصحاب الغنائم في الجيش على حساب اصحاب المبادئ...