الشيخ عبد الله بن بيه : "كورونا تحول من أزمة صحية إلى أزمة في القيم والنوع"

اثنين, 2020-12-07 20:16

انطلقت مساء اليوم (الاثنين) أعمال الملتقى السابع لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، والذي ينعقد هذا العام افتراضياً عبر تقنية الاتصال المرئي عن بعد بمشاركة وزراء وممثلي حكومات ومنظمات دولية وقادة دينيين وشخصيات رفيعة المستوى ومئات المفكرين والأكاديميين والباحثين ورجال الدين وممثلي منظمات المجتمع المدني والشباب.

ويعقد الملتقى برعاية الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي بدولة الإمارات العربية المتحدة؛ تحت عنوان: «قيم ما بعد كورونا: التضامن وروح ركاب السفينة»، وبمشاركة كل من رئيس منتدى تعزيز السلم فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه؛ رئيس مجلس الإفتاء الشرعي لدولة الإمارات، ورئيس المجلس العلمي الأعلى لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، والشيخ الدكتور محمد عبدالكريم العيسى ـ الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بالسعودية والعديد من علماء الدين والأكاديميين والدبلوماسيين وغيرهم؛ حيث يناقش على مدار ثلاثة أيام حتى 9 ديسمبر الجاري العديد من الموضوعات التي تشغل الوعي الكوني في هذه المرحلة.

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية، فصيلة العلامة الشيخ عبد الله بن بيه ألقى كلمة في الجلسة الافتتاحية للملتقى جاؤ فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم اللهمّ صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين يسرني بين يدي هذه الكلمة الافتتاحية أن أتقدم إليكم بجزيل الشكر والامتنان لما تفضلتم به من المشاركة في هذا الملتقى السابع الذي يتلئم في ظرفٍ استثنائي وفي شكل استثنائي، تجتمعُ أفكارنا وتتواصل قلوبنا، وتظلُّ الأجساد رهينةَ ما فرضه الظرف من التباعد. لقد كان المنتدى في دوراته الماضية يجسّد نموذجا جديدا وفريدا للحوار وتلاقح الأفكار، ففضلا عن المحاضرات والمباحثات في الورشات، كان هنالك نوع آخر لا يقلُّ أهميةً من التواصل، حين تحضر الذوات وتلتقي الحضارات، وتُكْتَشَفُ المشتركات.

وكذلك كانت هذه الملتقيات في عاصمة الإنسانية، أبوظبي، مناسبة للجميع ليلمسوا بأنفسهم روح السلام في دارها، ويستلهموا رؤية التسامح من معدنها، ويتنسّموا عبق أريج المحبة من مهبّها.

يأتي ملتقانا هذه السنة في سياق التّحديات الوجودية التي تواجه الإنسانية جمعاء، جراء هذا الوباء الذي غيّر برامج وخطط البشرية، وأعاد ترتيب أولوياتها وسَاءَلَ توجّهاتها القيمية. ليست جائحة كورونا هي أول أزمة تجتاح العالم، فلقد عرفت الإنسانية في تاريخها الطويل، القريب منه والبعيد، عددا كبيرا من الأزمات المتنوعة الأشكال والمختلفة الأسباب، ولكن لهذه الأزمة فرادتها في العصر الحديث، لـما امتازت به من شمول آثارها وتعدد تجلياتها في مجالات ومناحي الحياة المختلفة، إنها أزمة في ضمنها أزمات، إنها أزمة المفارقات وتدبير التّجاذبات، فقد وجدت البشرية نفسها على حين غرّةٍ، مطالبةً بالبحث عن الموازنات الدقيقة، الهشة والاستعجالية بين مجموعة من المتناقضات، بين الفاتورة الصحية والفاتورة الاقتصادية، فأيهما يقدّم:

حفظُ النّفس أو تنمية المال، بين منطق البحث العلمي القائم على التعاون والتلاقح المعرفي ومنطق السوق المرتكز على قيم التنافس والاحتكار، بين الدولة الوطنية التي استعادت مركزيَّتها وأثبتت ضرورتها ونجاعتها وبين وبين التعاون الدولي في العالم المفتوح تأكّد للجميع أنه هو السبيل الأوحد للخروج من الأزمة، بين كلي النفس وكلي الدين، فالمؤمنون من كل الأديان ألزمتهم الجائحة بالتخلي عن بعض ممارساتهم وشعائرهم الجماعية، تغليبا لقيمة الحياة التي جاءت هذه الأديان نفسُها بحفظها ورعايتها.

أيها السادة والسيدات،

أيها الحضور الكريم، إن هذه الأزمة وإن كانت في مبداها أزمةً صحيةً إلا أنها سرعان ما استحالت أزمةً في القيم، أزمة من النوع الذي يختبر أخلاقنا وقيمنا وإيماننا. إنها تختبر أخلاقنا في التعامل فيما بيننا، في بيوتنا ومع جيراننا، هل نصبر وننشر قيمة الصبر والتضامن بيننا أم نخضع لليأس والقنوط؟ تختبر قيمنا هل نُعلي قيمة الإحسان والمحبة والإيثار مع القريب والغريب أم ننكفئ على ذواتنا ونتشبّث بمصالحنا الضيقة.

إننا نؤمن أن هذه الأزمة وإن حملت ما حملت من التحديات وأوقعت ما أوقعت من الخسائر، إلا أنها كذلك تفتح قدرا كبيرا من الأبواب على المستقبل وتتيح عددا من الفرص والإمكانات، للإصلاح والمصالحة، لمن يستخلص العبرة ويمعن الفكرة.

إنها مناسبة نادرة لاكتشاف أنفسنا، نحن أبناء البشر، لاكتشاف مكامن الخير المطمورة وقيمنا الضامرة، لاستعادة روح الإنسان المنطلق نحو المطلق، المتحرّر من قيود ذاته، وحدود أنانيته، وللتخلص من المنطق المعوجّ لصراع الخصوصيات، ولوقف تيار العنف الهدّام والوقوق في وجه الحروب المدمرة.

إن ملتقانا لهذه السّنة يستشرف إمكانيات تطوير قيم كونية مشتركة أقرب إلى الإنصاف والتضامن والأخوة الإنسانية، بروح جديدة هي روح أصحاب السفينة، ولذلك اخترنا له شعار : “قيمُ عالم ما بعد كورونا: التضامن وروح ركاب السفينة”.

تلك السفينة هي سفينة الإنسانية التي ضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم المثل في الحديث الصحيح ” مَثَلُ القَائِمِ في حُدودِ اللَّه، والْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سفينةٍ، فصارَ بعضُهم أعلاهَا، وبعضُهم أسفلَها، وكانَ الذينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا في نَصيبِنا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرادُوا هَلكُوا جَمِيعًا، وإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِم نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا”

إن هذا الحديث من جنس الأحاديث ذات البعد الكوني، وهي بمنزلة الخطاب القرآني المصدّر بالنداء للبشرية “يأيها الناس”، فهو يقرّر حقيقة عامّة، ويذكّر بوضع إنساني شامل، ويضع قاعدة أخلاقية كلية، ويحذر من لا يـمْتَـثل أو يتـمَثّل هذه الروح. في هذا الحديث استعارة رمزية بليغة لحالة الإنسانية، في اتحاد مصائرها وتواشج مساراتها، وتشبيه لها بركَّاب السفينة الواحدة، والتي – وإن كانت ذات درجات متفاوتةٍ – إلا أنها في النهاية محكومة بمسار واحد ومحكوم عليها بمصير واحد.

إن هذه السفينة كما في بعض شروح الحديث هي الدنيا بأكملها، وإن شئت قلتَ هي الكوكب الأرضي بمن فيه، كافةً، باختلاف أعراقهم وتنوع معتقداتهم، وتفاوت أحوالهم ودرجاتهم. الاستهام على درجات السفينة قد نفهم منه التقسيم الوظيفي الحاصل بين الناس، كما نفهم من العلو المشار إليه علوا معنويًّا، فالذين بأعلى السفينة هم الذين يتولون تدبير الشؤون العامة، وهم المنوط بهم رعاية المصالح المتمثلة في الكليات الخمس التي جاءت الملل بحفظها والتي بها قوام كل مجتمع: الحياة، والدين، العقل، الملكية، العائلة. وقد تجلّت لأهل العصر، عصر الامتزاج والاتصال، حقيقةُ الترابط الموصوفة في الحديث، بأبهى صُورها، فما يحدث في طَرَف من المعمورة تصيب آثاره من هو في طرفها الآخر، وما يقوم به بعضنا يتأثر به جميعنا، فنحن في نسق واحد مترابط، لا انفصال فيه ولا انفصام.

ومن أوضح أمثلة هذا الترابط ما صار اليوم معروفا من وحدة المجال البيئي للبشرية كلها، فآثار أي اختلال يظهر في منطقة من العالم تنعكس على مناطق أخرى، كما وقع في انفجار المحطة النووية في تشرنوبيل، حيث انتشرت نتائجه في المكان وامتدت في الزمان.

وكذلك يكفي لتجلية هذا المعنى، ما وقع من سرعة انتشار فيروس كوفيد 19 الذي ظهر في وُهان في الصين، ثم ما لبث أن اجتاح العالم كلّه في بضع أسابيع. إن ركاب هذه السفينة مختلفون ومتنوّعون ولكن يجمعهم ميثاق يقوم على القناعة بأنهم لا نجاة لهم إلا بتغليبِ روح التضامن والتعاون والتكامل، وتحكيمِ قيم التراحم والمحبة والتسامح والحرية المسؤولة والحكامة الرشيدة.

ولكم أن تتصوّروا المشهد كيف تكون حالُ ركاب السفينة إذا هم اشتغلوا بالمشاكسات والمماحكات بدل التعاون، وأطلقوا العنان لأنانيّاتهم. إنّ مصيرَهم المحتوم بلا شكّ سيكون هو الغرقَ في أمواج البحر المتلاطمة من حولهم. بروح ركاب السفينة يقع تجديد القيم في النفوس وتأكيد الوعي بوحدة المصير الإنساني والدعوة إلى هبة ضمير عالمية تعيد لقيم التعاون والتضامن والتراحم فاعليتها، وتقدّم مفهوماً جديداً للإنسانية يتجاوز المبدأ المحايد لحقوق الإنسان ، ليرتقي إلى إيجابية قيم الفضيلة، التي تشعر الآخر بدفء المحبة والأخوة.

بهذه الرّوح المفعمة بالأمل نبشر بعالم يكون فيه السلام شاملا، ليس فقط بتوقيف الحروب، وإنما بحلول السلام الذي يتنزّل في القلوب.

لقد كانت روح ركاب السفينة حاضرة بقوة في رؤية الإمارات واستراتيجيتها لمواجهة تداعيات هذه الأزمة العالمية، من خلال الدور الريادي البارز الذي اضطلعت به في التضامن مع البلدان المتضررة من هذا الوباء دون النظر إلى دينها أو عرقها، جاعلةً من إغاثة الإنسان حيثما كان البوصلةَ والهدف الأسمى لجهودها. أيها الحضور الكريم، يطمح منتدى تعزيز السلم بدعوته لهذه النخبة من أرباب الفكر المبدع والنظر المثمر من الحكماء والعلماء من أهل الاختصاصات المختلفة، من خبراء الصحة في المنظمات الدولية، وكبار صناع القرار وعلماء الاجتماع، والعلوم الإنسانية، والقادة الدينين…بدعوتِه لهؤلاء جميعا يطمح المنتدى أن يرسم ملامح رؤية جديدة تعيد ضبط التوازن بين الكليات بشكل يضمن منظومة علاقات دولية أكثر إنسانية ومنظومة اقتصادية أكثر مساواة ورحمةً، منظومة تتخذ الإنسان غاية فتركّز على تنمية الحياة والإنسان والبيئة وتستثمر في تعزيز السلام.

والأمل المعقود في أن تسهم مباحثاتنا ومطارحاتنا طيلة الأيام الثلاثة، في لفت انتباه العالم إلى الانطلاقة الجديدة التي تتيحها هذه الأزمة، والدعوة إلى ميلاد إنسان جديد، برؤية جديدة للعالم، يعيد بناء ذاته وعلاقاته بجنسه وبالأمم الأخرى من المخلوقات بجنبه (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات- سورة البقرة:148).

ولي عودة إليكم في الجلسة القادمة لأفصّل ما أوجزت وأنشر ما طويت.

وختاماً أشكركم جميعاً وأدعو الله أن يحفظ أوطاننا ويصلح أعمالنا وأن يجعل اجتماعنا اجتماع خير وأن يكلله بالنجاح والتوفيق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"