الرئيس ولد عبد العزيز: ماله وما عليه .. (قراءة هادئة)

-A A +A
خميس, 2014-05-29 16:58

قبل الإستقلال  بأربع سنوات  رزقت أسرة  موريتانية من ولاية  انشيري  شمال البلاد  بطفل  أطلق عليه اسم محمد  سيصنع الحدث بعد نصف قرن ؛ يومها كسائر أطفال بلاد تعيش  آخر سنوات حقبة المستعمر الفرنسي   ؛  حيث بنى  تحتية لا تكاد  تذكر  ؛ و ادارة محلية ذات طابع بدوي ، و شخصيات وطنية منهمكة في إعداد التصور النهائي  لعاصمة بلاد ستنال استقلالها وتنبثق من بين الركام و تنفض غبار الشتات  ؛وتحقق حلما طالما راود قبائل صحراوية بالإندماج في دولة مستقلة ذات سيادة تعبر من خلالها هذه المجموعة البشرية عن تطلعاتها وآمالها و تترك بصمتها كباقي البشر .

لا أعرف الكثير عن حياة الطفل  محمد ولد عبد العزيز ؛ لكن أغلب المصادر تشير إلى انه عاش مع  أهله في السينغال  في تلك المرحلة حيث  كان  أبوه  يمارس في احدى المدن السينغالية  التجارة  ؛ وبالقفز سنوات طويلة وتسليط الضوء على المحيطين بالرئيس معاوية ولد  سيد أحمد الطايع يوم 12 دجمبر 1984  وهو يلقي كلمة شكر بل ألف شكر أمام المحتشدين بعد الإنقلاب على المقدم محمد خونا ولد هيداله ؛ كان في الصف الثاني أو الثالث  الضابط  محمد ولد عبد  العزيز والذي كان ينظر بعيدا ؛ وعندما أنهى العقيد ولد الطائع كلمته وهم بالرجوع إلى القصر كان ولد عبد العزيز يطلب من الحاضرين إفساح  المجال لعبور ولد الطايع الى قصره الجديد و الذي شاءت  الأقدار بعد20 عاما أن يفسح له المجال للعبور الإجباري نحو المنفى .

طويلة هي  ال20 سنة التي حكم فيها  الرئيس ولد الطائع وحبلى بالأحداث والمتغيرات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية  على المستوى الوطني  ؛ وقد تألق فيها الضابط محمد ولد عبد العزيز بصمت وظل بعيدا عن الأنظار  ؛ وحاز على ثقة كبيرة من سيد انواكشوط وتدرج من مرافق عسكري  تارة الى قائد لكتيبة أمن الرئاسة (بازب) تلك الكتيبة التي  ارتبطت به  ؛ اذ أحاطها بإهتمام خاص  ورسم أدق تفاصيلها وحاز على ثقة جل أفرادها ترغيبا  أو ترهيبا  لتكون  من أصلب عتبات سلمه إلى القصر الرمادي لرئاسة دولة ظلت عرضة للتذبذبات  والإتقلابات والمظاهرات وعشق المنتصر وتمجيد السلطان .

في ليلة الثامن من يونيو 2003 كان سكان انواكشوط بل موريتانيا والعالم على موعد مع بعث الإنقلابات في موريتانيا  بعد سبات طويل ؛ انقلاب وأية محاولة انقلاب  ؟ استخدمت فيها مختلف أنواع تشكيلات الجيش جوا و برا و ربما بحرا ؛ بخطط مدروسة وذكية ؛ يومها وجد  قائد كتيبة أمن الرئاسة  نفسه على مفترق طرق  ؛ كان على موعد حقيقي مع إثبات الذات ؛ و تدخل الحظ وانهارت محاولة الإنقلاب  بفعل عدم دقة تنظيم منفذيها حيث تاهت ساعة الصفر وحدث ارتباك كبير وانسحب نواة فرسان التغيير لاحقا ؛ ليمتص  ولد عبد العزيز ساعات الصدمة  الأولى ويحاول تعويض دخول الإنقلابيين إلى عقر دار تخصصه  و إرغام جنوده على ترك القصر ؛ وكر في اليوم الموالي وفجر دبابة مرابطة أمام الإذاعة الوطنية  ؛ وعطل أخرى ؛ ويبرز  من جديد إسمه وتمتد أنامل يد سيد القصر الرمادي المهتزة صورته  إلى قائد الكتيبة مانحا اياه  توشيحا من نوع خاص .

الجيش مذبذب والحالة الإقتصادية تسوء ولا يعرف بالضبط متى كانت فكرة التخلص من الرئيس ولد الطائع الذي أصبح عالة على فريقه العسكري خوفا من انقلاب جديد  لن يبقي أحدا من رجال عسكريين حول العقيد أما فريقه المدني فقد تعود التلون والانسجام مع كل قادم جديد ؛ ذلك الإنقلاب أو التمرد الذي بدأت تدق طبوله بشكل علني بعد أن كان  الرائد محمد ولد شيخنا يعزف النشيد الوطني مع لفيف من العسكريين في مكان صحراوي ما مصرين  على التخلص من  حكم معاوية ، وبعض المصادر تشير إلى أن محمد ولد عبد العزيز ورفيق دربه الغزواني اتخذا قرار التخلص من ولد الطايع في ليلة مقمرة قرب "لمغيطي" ومن ثم أخذت موافقة العقيد ولد ببكر ؛

ومهما كان موعد  فكرة الإنقلاب  وفي أي  مكان  فقد جاء  الإنقلاب هادئا وحكيما وأستقبل بالزغاريد والإحتفالات وأطلق سراح العلماء وقادة محاولة إنقلاب 8 يونيو ؛ وبدأت البلاد تسير نحو مرحلة انتقالية منظمة  مرحب بها  دوليا كتجربة ناصعة ؛ وتوجت المرحلة الإنتقالية  بإنتخاب رئيس مدني  لأول مرة  و دخلت البلاد دائرة الديمقراطية ودولة القانون ، وتمت ترقية العقيد محمد ول عبد العزيز الى رتبة جنرال ؛ لكن الفترة الذهبية  لم تطل  بل  شهدت البلاد أزمة خانقة توجت هي الأخرى  بفظاعة  ضد الديمقراطية عندما  ديس  على القانون الموريتاني والدستور في ضحى  يوم خريفي من عام 2008 ؛ وأعلنوا انهاء مهام رئيس الجمهورية  المنتخب  بحجة اتخاذه قرارا كان  سيؤدي لحرب أهلية و مجزرة بين صفوف الجيش   ، وانهارت أحلام الموريتانيين  أو بعضهم  وأيد البعض الآخر الإنقلاب بشكل واضح لالبس فيه  ؛  وعبر العالم  عن امتعاضه  ؛ وسجن الرئيس المنتخب و وزيره الأول وعادت البلاد القهقرى وانطلق ماراتون آخر نحو اثبات الذات  والصراع على السلطة .

أدرك ولد عبد العزيز أن معركة المصير قد بدأت فأطلق هجوما مضادا في كافة الإتجاهات ؛ مركزا على فريق وفي من شقين عسكري ومدني ؛ ففتح قنوات مع الدول الفاعلة  ؛  وزار العشوائيات في انواكشوط الذين لاتهمهم الديمقراطية بقدر ماتهمهم القطع الأرضية و توفير أبسط مقومات الحياة ؛  وأطلق وعودا براقة ؛ وتعهد بخلق واقع جديد  و تعهد بشكل أكثر حزما  بإنهاء كل الممارسات السلبية التي ميزت  الحقب الماضية ؛ وزار الأرياف وصب جام غضبه على الفساد والمفسدين  ؛ و أنهى العلاقات المشينة مع  اسرائيل ؛ وأطلق عملية لتطوير الجيش و تحديث قدراته  ، ونجح في استثمار اتفاق داكار لحل الأزمة السياسية في البلاد ؛  وعاد من جديد إلى السلطة عبر انتخابات رئاسية مقبولة إلى حد ما ؛ والتي خاض حملتها بطريقة دراماتكية فكانت قدرة الله حائلا دون تحطم طائرة كانت تقله  فهبطت به  قل صحراء موريتانيا المترامية الأطراف  حيث قطع كلوموترات  عدة مشيا على الأقدام في قلب الكثبان الرملية  بين ولاتة  وتامشكط  قبل أن يعود إلى إحدى المدن ويواصل حملته  ؛ وبعد الفوز واصل معركته على الفساد فأعاد هيكلية الدولة وأمر بتوقف جميع  سياراتها و رنين صوت هواتفها و انهاء عقود المنازل المؤجرة باسمها ؛ وعمم علاوتي النقل والسكن على موظفي الدولة  ؛ واهتم بالجانب الديني فاستقبل الدعاة وأطلق إذاعة للقرآن الكريم ؛ وخطط أهم عشوائيات انواكشوط  ؛ وتابع تنفيذ مشروع طرق انواكشوط العصرية .

وحاول انهاء ملف الإرث الإنساني ؛ وسجن بعض المدراء والفاعلين بتهمة الفساد وأرغم  بعض رجال الأعمال على  التعويض للدولة  ؛ واطلق مشروعا للحالة المدنية لاستخراج وثائق مؤمنة بمواصفات عالمية كان محل استحسان كبير ؛ و عادت الضرائب كقوة  وطنية ذات مصداقية  ؛ واهتم  بتنمية بعض المناطق  المنسية في أنحاء الوطن المترامية الأطراف  كانبيكت لحواش وترمسه وبورات  والشامي،  وتناقص الإعتقال العشوائي  وتضييق الحريات ؛ و عاشت  حرية الإعلام  فترة مزدهرة  فرخص للاذاعات الحرة والقنوات التلفزيونية  المستقلة ؛ وسن لقاء الشعب و لقاء الشباب و المقابلات التلفزيونية المباشرة ؛  و زار عدة بلدان و حضر عدة قمم  وعادت موريتانيا إلى الحظيرة الدولية  والإقليمية  بشكل كبير توجت بترأسها الاتحاد الافريقي .

ولكن بالمقابل  فقد أخفق  الرئيس ولد عبد العزيز في تنفيذ عدة مشاريع كان أطلقها ووعد بأن ترى النور في ظرفية وجيزة  فتوقفت في منتصف الطريق  فشتت مجهود الدولة وبعثر امكانياتها عبر خطط غير مدروسة ،  وتراجعت إلى حد بعيد تلك النظرة الوردية التي لامست مشاعر الفقراء  ؛ و ارتفعت الأسعار بشكل  مذهل أنهك المواطنين وخاصة أسعار المحروقات  ؛   و ظل التعليم  والعدالة من أكثر القطاعات المهملة  والمهمشة ؛ ووجد المرحلون من العشوائيات  أنفسهم في جحيم آخر من نقص الخدمات الأساسية  بعد أن تم الزج بهم في مساحات بعيدة بشكل استعجالي تنقصه  الدراسة أيضا ؛  وانتشرت ظاهرة انتحار الموريتانيين على أسوار القصر الرئاسي حرقا  احتجاجا على الظلم والتعسف  في مشاهد هزت ضمير الرأي العام  وظاهرة الاساءة للمقدسات كحرق الكتب الفقهية و الاساءة لخير الانام و  الحديث عن تمزيق للمصحف الشريف  وان كانت الحادثة الأخيرة ظلت محل خلاف من حيث الأسباب .

وساد شعور عام بالقبضة المركزية للأمور وفقد الوزراء والمدراء  لصلاحيات كافية تخولهم  العمل بشكل مهني ومستقل ؛ وعلى المستوى السياسي  لم يستطع إنهاء حالة الإحتقان في الشارع الموريتاني الذي ظل في أزمات  توجت بمقاطعة طيف سياسي واسع للانتخابات النيابية والبلدية  الماضية ؛ والرئاسية المزمع تنظيمها لاحقا ؛  وظلت المظاهرات والمسيرات تجوب أغلب شوارع العاصمة ؛ وطالب بعض الموريتانيين الرئيس بالرحيل  ؛ و لا يزال  قسم كبير من المتتبعين للشأن السياسي والمهتمين ينظرون إلى حقبة الرئيس محمد ولد عبد العزيز كإمتداد للحكم العسكري أكثر مما هي مرحلة ديمقراطية مدنية .

في يوم 13 اكتوبر 2012 كان الرئيس ولد عبد العزيز على موعد مع حادث مؤلم شكل منعطفا في حياته الشخصية   حيث  تعرض لطلق ناري قرب اطويلة  شمال انواكشوط  نقل على اثره إلى فرنسا للعلاج ، ليكون بذلك أول رئيس موريتاني يتعرض لمثل هذه الحوادث و حاز على تعاطف كبير ترجم خلال الإستقبال الشعبي غير المسبوق يوم عودته من فرنسا .

على المستوى الشخصي  وحسب ما يظهره الإعلام الرسمي و ما يقوله العارفون بالرجل فهو  ذو شخصية كارزمية يتميز بالصرامة والجدية  ؛ لا يضحك كثيرا لمستقبليه  أو مصافحيه ؛ يبتسم نادرا ،  بسيط في التعامل مع المواطنين العاديين  ؛ لا يأبه كثيرا للبرتوكولات  و أحيانا ينطلق بسيارته في الشارع بشكل اعتيادي  ؛ وأحيانا يمارس رياضة "المشي"  فجرا وهو في  زيارة للداخل  ؛ فضل استخدام  الطائرة  المروحية خلال زياراته الداخلية  ؛ قام بمبادرات شخصية حميدة كالوقوف مع  أسر ضحايا الحرائق والإعتداءات بمساعدتهم ماديا ومعنويا ؛ والتكفل بعلاج آخرين ؛ و أرسل طائرات خاصة لنقل جثامين الموريتانيين الذين توفوا في الخارج .

و لا يزال محمد ولد عبد العزيز حتى كتابة هذه الأسطر يرأس بشكل رسمي الجمهورية الإسلامية المورتانية ، ولايزال التاريخ ماسكا قلمه يكتب كتابات  لا سبيل لأية "ممحاة " إلى محوها أو إخفاء  أثرها ،  بيد أن غبار السلطة وتشعباتها ؛ وتناقض  مؤيديها ومعارضيها تجعل الحكم الصائب  على الرجل بعيد المنال في الوقت الحالي ؛ و عندما ينقشع ذلك الغبار ويتيه التاريخ وحيدا وتهدأ النفوس ساعتها سيتناوله المتناولون  بعيدا عن الأهواء ؛ عندها فقط ستنجلي الحقيقة و تظهر بصمات  الرجل على المشهد كما هي بإيجابياتها وبسلبياتها .

م . لمهابه ولد بلاّل