التجاذبات العرقية و إكراهات الدولة المدنية؟ / الولي ولد سيدي هيبه

أحد, 2015-04-12 15:49

تترك العوامل النفسية والمتغيرات التي تصيب الشعوب أثارا بارزة في تطور حياتها الأمر الذي يفسر قوة التأثيرات التي تصاحب قيام الدول وسقوطها و كيفية حماية الكيانات الكبرى مصالحها و الاهتمام البالغ بروح العرق المهيمن على مقادير الأمم حين تتشابك مصالح الجميع داخل الحيز المشترك

 رغم أن هناك مصالح خاصة قد يتفق عليها الجميع.ويمكن القول إن العرق هو مجموعة من الأفكار والمشاعر تجمع طائفة من البشر وتتكون منها الاحتياجات والعادات والرغبات وفق درجات معينة تتشكل منها الروح القومية.و العرق بهذه المميزات جاذب ولا يمكن التحرر منه لأنه امتداد لحياة الآباء والأجداد وإذا كان عدد الأموات يظل أكثر من الأحياء فإنهم يظلون كذلك أقوى من الأحياء في الموروث العرقي لحياة أي شعب، لأن الأموات يسيطرون على دائرة اللاشعور الواسعة في مجموع الأفكار والمشاعر و يشكلون الأجيال الغابرة التي تفرض تاريخها و أفكارها ومزاجها النفسي و أبعادها الاجتماعية و ترسانة تقاليدها وقيمها.و على الرغم من أن معتقد و طقوس "الفودو Vodou" غير مستغربة في بعض دول أمريكا اللاتينية و جزر الكاريبي التي تتميز بحضور كثيف للعرق الزنجي فيها - و هو الأمر مع ذلك الذي يجب أن يكون محل استغراب لبعد أصله و منبع جذوره في القارة السمراء - فيما تُستغرب بعض الطقوس في إمبراطورية اليابان مع أنها بلد التطور والانفتاح علما بأن أفكار العرق الياباني تظل مرتبطة بالمزاج التكويني النفسي له و علما بأن هذه التكوينات لا تتغير إلا بظهور عرق جديد و لا تحصل إلا عند اختلاط شعبين أو أكثر و بروز عامل التوالد مثلما حصل بين الشعب الأوروبي داخل اسبانيا مع العربي في الأندلس عندما ظهر ما يعرف بالمولدين و كما حصل في بلدان عديدة أخرى و منها على سبيل المثيل ما كان بين الإنجليز و السكسونيسين و النورمانديين و الفرنسيين و البربر و العرب في المغرب العربي و الطوارق و الأعراق المختلفة في مالي  و النيجر و غيرهما.و لقد استطاعت الدول الأمريكية اللاتينية تجواز عقدة العرق و اختلطت دماء الهنود الحمر السكان الأصليين أصحاب حضارات الماياMaya  و الآزتيك  Aztèqueو الإينكا  Incaاللامعة مع دماء البيض الغزاة الأسبان و غيرهم و العبيد المستقدمين من إفريقيا و مع العرب و الآسيويين المهاجرين. صحيح أن ذلك لم يكن ليحصل لو لم يستشر الوعي بضرورة الحوار الحضاري و نهج الديمقراطية و إشاعة العدالة الاجتماعية و إيثار المعرفة و العلم.كما تسعى الهند ذات الأعراق المختلفة و اللغات العديدة التي تتجاوز الثلاث مائة و الديانات المتعارضة بفضل ديمقراطيتها و وعي أهلها و استيعاب شبابها للعلم، سعيا حثيثا إلى القضاء على البؤر المتبقية و الحاضنات المتعارضة مع توجهها إلى دولة القانون و العدالة و المساواة و هي في ذاك النهج تبلي بلاء حسنا و تسطر نجاحات ساعدت على كبح جماح التطرف الديني و نفوذ الطبقية المتولدة عنه.و في إفريقيا و منها تنزانيا امتزج الدم العربي و الهندي القادمان من وراء البحر الأحمر و المحيط الهندي بدم العديد من الأعراق الزنجية الأصلية فتولدت حضارة فريدة لها سحر الشرق و روائح بهاراته و  قد امتزجت كذلك اللغات الوافدة باللغات المحلية مخلفة أخرى جميلة كـ"السواحيلية" جمعت تأثير بعضها بالبعض فخلقت مساحة فريدة للإبداع و سحر البيان و موسيقى فريدة أنجبت مقامات أثرت و قربت ثم أثْرت موروث القارتين.و لولا الخلافات العقائدية التي يقف وراءها المتعصبون من أصحاب الديانات و الفلفسات الماورائية لهان أمر الأعراق في العديد من دول العالم لما لسهولة اندماج الأعراق مع بعضها عندما تتشابك المصالح و تظهر متطلبات و ضرورات الأمن للجميع. و لو أمعنا النظر في أغلب هذه الصراعات لا يخفى مطلقا أن التعصب للمعتقد يظل الوقود بعد ما كان السبب لها و أن إطفاء جذوته تظل من أصعب الأمور و إن استطاعت دول كثيرة بفضل وعي شعوبها و تجارب بعضها المريرة أن تتجاوز عقدة الخلاف المعتقدي في دساتيرها و على أرض الواقع من خلال وضع قوانين وضعية تراعي التوازن و تلغي الاختلافات المعوقة للتفاهم و التعايش و تضافر الجهود للبناء و الوصول إلى العدالة الاجتماعية في ظل دولة القانون.و أما في موريتانيا فالأمر مختلف تماما حيث أن المعتقد واحد و هو دين الإسلام الحنيف و المذهب فيها واحد و الذي هو المذهب المالكي السني الأشعري و الإثنيات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة يجمعهما عرقان. و لكن ضعف أساس بناء الدولة و سوء نية المستعمر عند الاستقلال و هشاشة البنية الاجتماعية و ميوعة التوازنات التي كانت تحكمها آنذاك متطلبات العيش للبقاء و الأمن و غياب مفهوم الدولة ذات الحدود المقامة و النظام الإقطاعي الذي أفرزته تلك المرحلة بتجليات جهلها المستشري و هشاشتها البادية  و سذاجة معطاها العلمي و التنظيمي من ناحية، و في غياب الروح المدنية و ما تتطلبه من استقرار و ضرورة إرساء لقواعد البقاء و الاستمرار من ناحية أخرى، هي مجتمعة العوامل التي أضعفت من حظ المعتقد الواحد في ضمان الانصهار و تشكل مجتمع له قواسم مشتركة أكثر طغيانا على عوامل التمايز السلبي الذي يلغي بجاهلية روح المعتقد و يميعه و يرد إلى اعتبارية العرقية و صراعاتها للتمايز و الاستعلاء على الآخر.و بالطبع فإن ضعف الدولة التي تأسست بجرة قلم الاستعمار بمعايير و أهداف حددها زارعا فيها كل بذور الشقاق المستقبلي، و ما تلا ذلك من تشرذم الطبقة المتعلمة منذ البداية  و من بعد الجماعات المحسوبين على الثقافة العالمة بفضل ما نالوا من تعليم عال و تخرجهم في جامعات و معاهد العالم العليا بشهادات رفيعة. و هي الطبقة التي أمدت فيما بعد المستعمر الفرنسي لقيام مشروع استعماره الجديد المقنع Néo colonialisme بدوافع ضعف الدولة الفتية و بقائها "حظيرة خلفية" له يقلبها بمزاجه، يفرض فتات لغته عليها في استنساخ منهج لأهلها و يستغل خيراتها الوفيرة المتنوعة و حتى يصدق فيه المثل الشعبي الذي يقول "من حصل على شواء أمن يديه شر الحرق".و لم يعن العمق القومي و مده الذي بحث عنه الجميع من عرب و زنوج أفارقة كل باتجاه في رص الصفوف و لحمة أهل الكيان مما زاد ضعف القيام و أجل عمل البناء إلى حين الخروج من دوامة التموقع و الاستعداد لإجهاض مسعى الآخر. و بالطبع فإن ذلك الصراع العرقي القومي اضعف من دور اللحمة المعتقدية و حال دون لعبها دورها الذي كان في المراحل الأولى من وجود فضاء مشترك و جامع يجري فيه تبادل تمليه ضرورات البقاء.و لم تمر زوابع هذه التوجهات، التي أعان عليها منعطف عالمي خبا طويلا و إن بدت تظهر من جديد بعض إرهاصات عودته في بعض بؤر العالم، حتى ظهرت الأحزاب و برزت المنظمات الحقوقية المنادية بحقوق الطبقات المظلومة تحت مظلة القبلية و سقف التنظيم الطبقي داخل نظم الإثنيات الاجتماعية. و رغم إيجابية وجود الأحزاب في منظومات الدول الحديثة و مثل تلك المنظمات في حراكها إلى دولة القانون إلا أنها تميزت بالشطط و الخروج على مألوف عملها في العالم بحيث كرست لغة العنف و رفض الحوار و التصعيد. و لو لم يكن الشعب في غير مسارها ذاك لكانت الأمور أشد تعقيدا. و بالطبع فإن  مثل هذه الوضعية التي تتسم باضطراب البوصلة و تفكك الارتباط هي التي أعانت منذ وجودها بضعف "الحكامة" في الأداء و شدة التمسك بالسلطة عند الجميع و العمل بكل الوسائل التي يتيحها هذا الوضع و المسار إلى ذلك  سبيلا.و متى ما وصل الوعي إلى كمال فهم ضرورات قيام دولة القانون المدنية المواطنة عند النخب كلها سياسية و ثقافية و دينية و مدنية و علمية و اجتماعية في حيز التوجيه و عسكرية في دائرة توفير و ضمان الأمن و حماية البلد و عمالية إنتاجية، فإن العرقية شكلا و مضمونا ستصبح جزء إيجابيا من موزايك التنوع المحمود و دعامة صلبة في قيام دولة التنوع و الإشعاع الحضاري و الإبداع و البناء الأفقي و العمودي.